التيارات الإسلامية وقضية الديمقراطية
يتساءل الكاتب السوداني حيدر ابراهيم علي في كتابه "التيارات الاسلامية
وقضية الديموقراطية" الصادر لدى "مركز دراسات الوحدة العربية"، عن مدى
ايمان الحركات الاسلامية بالديموقراطية،
وهل ترى فيها مجرد تكتيك ووسيلة لاكتساب الشرعية حتى تبلغ درجة من
القدرة على السيطرة على الحكم، ثم تنقلب عليها فتحاربها وتفرض مفاهيمها
الخاصة. لا ينبع السؤال من تخمين نظري، بل يورده الكاتب استناداً الى واقع
عملي جرت معايشته في السودان عندما اتيح للحركة الاسلامية هناك ان تصل الى
الحكم، فانقلبت على المقدمات السياسية التي قالت بها قبل الانتخابات وتنكرت
لمبادئ الديموقراطية، بل لفظتها نظرية وممارسة. فلم تقدم هذه الحركات اي
ممارسة ديموقراطية في تعاطيها اليومي سياسيا وعمليا. يرصد حيدر ابراهيم علي
نشوء عدد من الحركات الاسلامية في مصر والسودان والجزائر وتونس وغيرها من
البلدان العربية، ويقدم فكرة عن عوامل النشوء، وعن القواسم المشتركة
لافكارها ومفاهيمها الايديولوجية.
الملاحظة الأولى تُطرَح على الفكر الاسلامي الحديث، انه لم يستطع ان ينتج مفاهيمه المعرفية المتصلة بالعصر الراهن، فظل اسير مفاهيم فقهية تعود الى قرون خلت، يعتمدها مرجعا في صوغ افكاره في الدولة والديموقراطية والامور السياسية. فلو اخذنا الدولة مفهوما وواقعا، فإن المجتمعات العربية استوردت الدولة من الخارج، نماذج ومفاهيم، ولم يظهر فكر اسلامي، قديما وحديثا، يطرح مفاهيمه حول الدولة، الأمر الذي اوجد غيابا لنظرية الدولة لدى هذا الفكر. ظل الغالب لدى الفكر الاسلامي يدور حول "الجماعة السياسية"، كما ظل موضوع الخلافة القضية المركزية في معالجة هذا الفكر لنماذج الدولة الحديثة. "فالاسلاميون يحاولون تطويع مفهوم الدولة الحديثة او القومية حتى تفقد كثيرا من مضمونها الفلسفي والتاريخي، ويبقون وظائف الدولة، وهذه يمكن ان تقوم بها الخلافة او الامامة". هكذا تصبح الدولة عند الحركات الاسلامية خصوصا الاصولية منها، ذات وظيفة تنظيمية في خدمة الامة، والدولة مسؤولة امام الامة، فيما الامة مسؤولة بدورها امام الله. على رغم ان عددا من المفكرين الاسلاميين سعوا الى انتاج مفاهيم تقرب الى مفهوم الدولة الحديثة على غرار الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وغيرهم من رواد نهضة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الا أن السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات العربية في تلك المرحلة تسبب في اجهاض افكار النهضة هذه نظرا الى غياب القوى التي يمكنها ان تحمل اعباء المشروع النهضوي وتفرضه في هذه المجتمعات، على غرار ما فعلته النهضة الاوروبية عشية الاصلاح الديني وبعده. هذا الفشل لبعض الافكار التنويرية، رافقته استعادة لفكر متشدد في شأن الدولة مثّلته الحركة الأم لجميع الحركات الاسلامية، اي حركة "الاخوان المسلمين" في مصر، التي طرحت شعار "الاسلام هو الحل" وحددت وظيفة الدولة في اقامة الدين ونشر الدعوة من خلال السلطة والتربية. واستكملت هذه الافكار بما طوّره ابو علي المودودي وسيد قطب خصوصا في ما يتعلق بمفهوم "الحاكمية" التي تتخذ اشكالا مختلفة لدى المذاهب الرئيسية في الاسلام. فهي عند المودودي "القانون الالهي الجامع الواسع الذي وكل الى الحاكم المسلم تنفيذه في الناس". وهي لدى الاسلام السياسي الشيعي خصوصا بعد وصوله الى السلطة في ايران، ولاية الفقيه التي بلورها الخميني عشية الثورة.
اذا ما انتقلنا الى مسألة الديموقراطية لدى المفكرين المسلمين ومنظّري الحركات الاسلامية، فإننا نجد خلطاً بين مفهوم الديموقراطية وفكرة الشورى التي وردت لماما في بعض الايات القرآنية، فيما لا وجود لكلمة الديموقراطية في التراث الاسلامي، بالنظر الى كون هذا المفهوم نتاج تطورات سياسية واجتماعية شكلت المجتمعات الاوروبية مركزها الاساسي. يذهب كثير من المفكرين الاسلاميين الى اعتبار الديموقراطية جزءاً من مشروع الهيمنة الحضارية الغربية، لذلك هي مرفوضة، بل اكثر: فهي تتويج لأنظمة الكفر المرتبطة في الذاكرة العربية والاسلامية بالاستعمار والقهر والفساد. لعل اهم النقاط التي تدفع الاسلاميين الى رفض الديموقراطية انما تكمن في اولوية افكار التوحيد والوحدة في الاسلام، وما تعنيه فكرة التوحيد في العبودية لله وحده، وكون الديموقراطية تجعل مصير الانسان في يده فيما يرى الاسلاميون في ذلك نوعا من الشرك والتعدد المنافي للتوحيدية التي تجعل الامر كله منوطاً بالله. هكذا "تحتل وحدة الامة الاسلامية اولوية عليا، مما قد يسمح بالتضحية بحريات فردية وجماعية، لأنها لا تخلو من احتمالات تفتيت الامة وتشتتها". ويرفض الاسلاميون الاسس الفلسفية للديموقراطية لكون مفهوم الحرية الذي يشكل احد اهم اسسها، بلوره عصر الانوار في اوروبا، ولكونه يخالف الاسلام في عنصرين: "خلفيته العلمانية... وان يكون الانسان هو مصدر كل سلطة وكل تشريع وكل مبدأ اخلاقي". كما يجمع الاسلاميون في رفضهم للديموقراطية لكون سلطة الامة في الديموقراطية مطلقة، فيما هي في الاسلام مقيدة بالشريعة، وان اهداف الديموقراطية دنيوية فقط ولا تهتم بالاخرة.
تستتبع قضية الديموقراطية مواقف تتصل بحقوق الانسان، من قبيل الحريات الشخصية وموضوع الردة والمرأة والاقليات والموقف من استخدام العنف وغيرها من القضايا المتصلة بالحقوق المدنية للانسان. يشير حيدر علي الى ان "الكتّاب الاسلاميين يحاولون اللحاق بتقليعة المجتمع المدني من خلال استنطاق التاريخ بالقوة واستخراج نماذج اجتماعية تصنَّف تعسفا على اساس انها تمثل مؤسسات المجتمع المدني". لكن ذلك سرعان ما يتهاوى عندما يشدد الحركيون من دعاة الدولة الاسلامية على آراء قاطعة عن علاقة الدولة والمجتمع، حيث يجري تأكيد شمولية الدولة لأنها قائمة على الدين، الذي هو نظام للحياة يشمل سلوك الانسان وممارسته في حياته العملية. وعندما يتحدث الاسلاميون عن حقوق الانسان، ينحكم حديثهم بهواجس الخوف على العقيدة والخشية من ان تكون هذه الحقوق وسيلة لتقليص قبضة الدين على الافراد. فوفق المنظور الاسلامي لهذه الحقوق، هناك حقوق الله كما هناك حقوق الانسان التي تصدر بالضرورة عن حقوق الله.
اذا كانت الحركات الاسلامية تنطلق في الجوهر من مبادئ مشتركة في قضية الديموقراطية، الا ان التطورات السياسية وميدان العمل لكل طرف اديا الى وجود تباينات في التعبير عن الموقف، تشددا او تكيفا مع الظروف، مما يطرح سؤالا راهنيا ومستقبليا عن علاقة هذه الحركات بمجمل المجتمع، فيما لو تمكنت من الوصول الى السلطة، ومدى الحدود التي ستتيح فيها لحرية التعبير والعمل السياسي للقوى او الاطراف التي لا تعتنق مبادئها. الجواب لا يدعو الى التفاؤل بالنظر الى السلوك الاستبدادي الذي جرت ممارسته، وسيعاد استخدامه في كل بلد تتمكن الحركات الاسلامية من الهيمنة على السلطة فيه.
الملاحظة الأولى تُطرَح على الفكر الاسلامي الحديث، انه لم يستطع ان ينتج مفاهيمه المعرفية المتصلة بالعصر الراهن، فظل اسير مفاهيم فقهية تعود الى قرون خلت، يعتمدها مرجعا في صوغ افكاره في الدولة والديموقراطية والامور السياسية. فلو اخذنا الدولة مفهوما وواقعا، فإن المجتمعات العربية استوردت الدولة من الخارج، نماذج ومفاهيم، ولم يظهر فكر اسلامي، قديما وحديثا، يطرح مفاهيمه حول الدولة، الأمر الذي اوجد غيابا لنظرية الدولة لدى هذا الفكر. ظل الغالب لدى الفكر الاسلامي يدور حول "الجماعة السياسية"، كما ظل موضوع الخلافة القضية المركزية في معالجة هذا الفكر لنماذج الدولة الحديثة. "فالاسلاميون يحاولون تطويع مفهوم الدولة الحديثة او القومية حتى تفقد كثيرا من مضمونها الفلسفي والتاريخي، ويبقون وظائف الدولة، وهذه يمكن ان تقوم بها الخلافة او الامامة". هكذا تصبح الدولة عند الحركات الاسلامية خصوصا الاصولية منها، ذات وظيفة تنظيمية في خدمة الامة، والدولة مسؤولة امام الامة، فيما الامة مسؤولة بدورها امام الله. على رغم ان عددا من المفكرين الاسلاميين سعوا الى انتاج مفاهيم تقرب الى مفهوم الدولة الحديثة على غرار الطهطاوي وخير الدين التونسي وعبد الرحمن الكواكبي ومحمد عبده وغيرهم من رواد نهضة القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، الا أن السياق السياسي والاجتماعي والاقتصادي للمجتمعات العربية في تلك المرحلة تسبب في اجهاض افكار النهضة هذه نظرا الى غياب القوى التي يمكنها ان تحمل اعباء المشروع النهضوي وتفرضه في هذه المجتمعات، على غرار ما فعلته النهضة الاوروبية عشية الاصلاح الديني وبعده. هذا الفشل لبعض الافكار التنويرية، رافقته استعادة لفكر متشدد في شأن الدولة مثّلته الحركة الأم لجميع الحركات الاسلامية، اي حركة "الاخوان المسلمين" في مصر، التي طرحت شعار "الاسلام هو الحل" وحددت وظيفة الدولة في اقامة الدين ونشر الدعوة من خلال السلطة والتربية. واستكملت هذه الافكار بما طوّره ابو علي المودودي وسيد قطب خصوصا في ما يتعلق بمفهوم "الحاكمية" التي تتخذ اشكالا مختلفة لدى المذاهب الرئيسية في الاسلام. فهي عند المودودي "القانون الالهي الجامع الواسع الذي وكل الى الحاكم المسلم تنفيذه في الناس". وهي لدى الاسلام السياسي الشيعي خصوصا بعد وصوله الى السلطة في ايران، ولاية الفقيه التي بلورها الخميني عشية الثورة.
اذا ما انتقلنا الى مسألة الديموقراطية لدى المفكرين المسلمين ومنظّري الحركات الاسلامية، فإننا نجد خلطاً بين مفهوم الديموقراطية وفكرة الشورى التي وردت لماما في بعض الايات القرآنية، فيما لا وجود لكلمة الديموقراطية في التراث الاسلامي، بالنظر الى كون هذا المفهوم نتاج تطورات سياسية واجتماعية شكلت المجتمعات الاوروبية مركزها الاساسي. يذهب كثير من المفكرين الاسلاميين الى اعتبار الديموقراطية جزءاً من مشروع الهيمنة الحضارية الغربية، لذلك هي مرفوضة، بل اكثر: فهي تتويج لأنظمة الكفر المرتبطة في الذاكرة العربية والاسلامية بالاستعمار والقهر والفساد. لعل اهم النقاط التي تدفع الاسلاميين الى رفض الديموقراطية انما تكمن في اولوية افكار التوحيد والوحدة في الاسلام، وما تعنيه فكرة التوحيد في العبودية لله وحده، وكون الديموقراطية تجعل مصير الانسان في يده فيما يرى الاسلاميون في ذلك نوعا من الشرك والتعدد المنافي للتوحيدية التي تجعل الامر كله منوطاً بالله. هكذا "تحتل وحدة الامة الاسلامية اولوية عليا، مما قد يسمح بالتضحية بحريات فردية وجماعية، لأنها لا تخلو من احتمالات تفتيت الامة وتشتتها". ويرفض الاسلاميون الاسس الفلسفية للديموقراطية لكون مفهوم الحرية الذي يشكل احد اهم اسسها، بلوره عصر الانوار في اوروبا، ولكونه يخالف الاسلام في عنصرين: "خلفيته العلمانية... وان يكون الانسان هو مصدر كل سلطة وكل تشريع وكل مبدأ اخلاقي". كما يجمع الاسلاميون في رفضهم للديموقراطية لكون سلطة الامة في الديموقراطية مطلقة، فيما هي في الاسلام مقيدة بالشريعة، وان اهداف الديموقراطية دنيوية فقط ولا تهتم بالاخرة.
تستتبع قضية الديموقراطية مواقف تتصل بحقوق الانسان، من قبيل الحريات الشخصية وموضوع الردة والمرأة والاقليات والموقف من استخدام العنف وغيرها من القضايا المتصلة بالحقوق المدنية للانسان. يشير حيدر علي الى ان "الكتّاب الاسلاميين يحاولون اللحاق بتقليعة المجتمع المدني من خلال استنطاق التاريخ بالقوة واستخراج نماذج اجتماعية تصنَّف تعسفا على اساس انها تمثل مؤسسات المجتمع المدني". لكن ذلك سرعان ما يتهاوى عندما يشدد الحركيون من دعاة الدولة الاسلامية على آراء قاطعة عن علاقة الدولة والمجتمع، حيث يجري تأكيد شمولية الدولة لأنها قائمة على الدين، الذي هو نظام للحياة يشمل سلوك الانسان وممارسته في حياته العملية. وعندما يتحدث الاسلاميون عن حقوق الانسان، ينحكم حديثهم بهواجس الخوف على العقيدة والخشية من ان تكون هذه الحقوق وسيلة لتقليص قبضة الدين على الافراد. فوفق المنظور الاسلامي لهذه الحقوق، هناك حقوق الله كما هناك حقوق الانسان التي تصدر بالضرورة عن حقوق الله.
اذا كانت الحركات الاسلامية تنطلق في الجوهر من مبادئ مشتركة في قضية الديموقراطية، الا ان التطورات السياسية وميدان العمل لكل طرف اديا الى وجود تباينات في التعبير عن الموقف، تشددا او تكيفا مع الظروف، مما يطرح سؤالا راهنيا ومستقبليا عن علاقة هذه الحركات بمجمل المجتمع، فيما لو تمكنت من الوصول الى السلطة، ومدى الحدود التي ستتيح فيها لحرية التعبير والعمل السياسي للقوى او الاطراف التي لا تعتنق مبادئها. الجواب لا يدعو الى التفاؤل بالنظر الى السلوك الاستبدادي الذي جرت ممارسته، وسيعاد استخدامه في كل بلد تتمكن الحركات الاسلامية من الهيمنة على السلطة فيه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق