السلفيون والربيع العربي
يسعى
الكتاب إلى مناقشة وتحليل المشهد العربي الجديد وما يترتب على السلفيين
فيه من استحقاقات فكرية وسياسية، وما يصدر عن دخولهم المشهد السياسي من
نتائج وتداعيات. ينطلق هذا الكتاب في تحليله من زاويتين: الأولى، دراسة
تأثير الثورات والانتفاضات العربية في الحركات السلفية، أيديولوجياً
وسياسياً؛ والثانية، دراسة تأثير الدور السياسي المتوقع للحركات السلفية في
اللعبة السياسية في بعض المجتمعات العربية. ويرى
الكتاب أن حقبة الثورات والانتفاضات العربية دفعت بالتيار السلفي عموماً
نحو مرحلة جديدة، حين قرّرت جماعات وحركات سلفية خوض غمار العمل السياسي
والتجربة الحزبية، بعدما بقي الطيف الرئيس والعام من هذا التيار مصرا خلال
العقود الماضية على أولوية العمل الدعوي والاجتماعي والتربوي، رافضاً
الولوج إلى اللعبة السياسية، بذرائع وأسباب متعددة ومختلفة. إلا
أن المرحلة الجديدة لم تكن بلا تكاليف سياسية وفكرية، سواء على السلفيين
أنفسهم أو على اللاعبين السياسيين الآخرين، بعدما بات السلفيون الذين دخلوا
اللعبة الديمقراطية مطالبين بقبولهم شروط هذه اللعبة ومخرجاتها
ومحدّداتها، الأمر الذي بات يستدعي منهم إجراء مراجعة أيديولوجية وفكرية
لميراثهم السابق، وهو أمر لا يزال موضع نقاش، ليس لدى السلفيين وحسب بل لدى
خصومهم أيضاً.
من هم السلفيون؟
يرى
الباحث أن الحالة السلفية تفتقد التنظيم العالمي أو الإقليمي – على غرار
جماعة الإخوان المسلمين. كما تفتقد الأشكال الحركية الموحدة المحلية في
البلاد العربية، بل إنها تتسم باختلافات داخلية واسعة وكبيرة، بينها الخلاف
على شرعية من هو السلفي أولاً، وثانياً، وهو الأهم، الخلاف في شأن الموقف
من العمل السياسي واستراتيجيات التغيير والإصلاح، ما بين مجموعات تؤمن
بمبدأ طاعة ولي الأمر، أي قبول حكم المتغلب، ومجموعات أخرى تقوم على مبدأ
المفاصلة، أي تكفير الحكام والخروج عليهم. والسلفية مصطلح فضفاض يختلف
تعريفه بين الباحثين. فهي ليست متجانسة في الرؤى والأفكار، بل هي تيارات
متنوعة ومتباينة، وهي في كثير من الأحيان متضاربة في اتجاهاتها السياسية. ولا
يقف الاختلاف على تعريف السلفية عند حدود الباحثين في العلوم الاجتماعية
والسياسية، إذ يحتدم السجال داخل الخطاب السلفي نفسه بين تياراته المتعددة
على من هو الممثل الشرعي لهذا الخطاب؟. فتعريف
السلفيين التقليديين للسلفية يختلف تماماً عن تعريف السلفيين الجهاديين
لها. فعلي الحلبي، أحد شيوخ السلفيين في الأردن، يخرج تنظيم القاعدة
والجهاديين من عباءة السلفية، ويرفض توصيفهم بذلك، ويعرفهم بالتكفيريين
وحفدة الخوارج. ويعرف السلفية بأنها دعوة للعلم والعبادة والعقيدة، والسلوك
والمعاملات، والتربية والأخلاق.... ثم يحددها بأنها أجل من أن تكون حزباً
أو حركة أو تنظيماً، مبعداً المنهج السلفي عن العمل الحركي والحزبي.
فيستثني السلفية الجهادية والعمل السياسي من مفهومه للسلفية.
أما
مقبل بن هادي الوادعي، شيخ السلفية التقليدية في اليمن، فيتجاوز الآخرين
ويضع تعريفاً إجرائياً مفصلاً للدعوة والسلفية ومنهجها في كتابه هذه دعوتنا
وعقيدتنا، يحدد فيه موقف السلفيين من الحكام، بعدم الخروج عليهم، ومن
الأحزاب الإسلامية الأخرى برفض العمل السياسي.
في
الطرف الآخر، نجد أبو محمد المقدسي (عصام البرقاوي)، وهو من أبرز منظري
السلفية الجهادية، فيقول إن السلفية الجهادية تيار يجمع بين الدعوة إلى
التوحيد بشموليته والجهاد لأجل ذلك في آن واحد، أو قل هو تيار يسعى إلى
تحقيق التوحيد بجهاد الطواغيت... فهذه هي هوية التيار السلفي الجهادي الذي
تميزه عن سائر الحركات الدعوية والجهادية.
وينتقد
المقدسي السلفية التقليدية متهماً إياها بأنها تركز على شرك القبور وتبتعد
عن الواقع السياسي الحالي، أو ما يسميه بشرك القصور، أي الحكام والتشريعات
المخالفة للشريعة الإسلامية، والتعاون مع الغرب بما يناقض عقيدة الولاء
والبراء لدى السلفيين.
هذا
الاختلاف حول مفهوم السلفية وتعريفها نظرياً وواقعياً، دفع الباحثين في
السنوات الأخيرة إلى إضافة وصف ثانٍ للتمييز بين الحركات والدعوات السلفية،
كأن يقال السلفية العلمية، والسلفية التقليدية، والسلفية الإصلاحية،
والسلفية الجهادية... الخ
يميز
الباحث بين أربعة اتجاهات رئيسة في السلفية المعاصرة: الأول هو اتجاه
الخط المحافظ أو العلمي والدعوي، وقد اختار الدعوة والتعليم، رافضاً مبدأ
المشاركة السياسية، مركزاً جهوده على ما يعتبره تصحيحاً للجوانب العقائدية
والعلمية والرد على العقائد والأفكار التي يعتبرها منحرفة (الشيعة،
المعتزلة، والخوارج)، وداخل المجتمع السني على العقائد والفرق الصوفية
والأشاعرة والماتريدية، وهي في أغلبها خلافات دينية ذات طابع عقائدي. يمثل
هذا الخط بدرجة واضحة في السعودية كل من الشيخ عبد العزيز بن باز والشيخ
محمد بن صالح العثيمين، وقريب من هذا الخط الشيخ ناصر الدين الألباني في
الأردن، وجمعية أنصار السنة المحمدية في مصر.
الاتجاه
الثاني يقف على يمين الخط الأول سياسياً، وهو أكثر تشدداً ضد الأحزاب
الإسلامية نفسها، وتقوم مقاربته على مبدأ طاعة أولياء الأمور، ورفض
المعارضة السياسية لهم، ويكاد يكون متخصصاً في الرد على الإسلاميين
والسلفيين الآخرين الذين اختاروا طريق العمل أو الخطاب السياسي المعارض.
يمثل هذا الخط في السعودية أتباع محمد بن أمان الجامي وربيع بن هادي
المدخلي، وفي اليمن مقبل بن هادي الوادعي وأتباعه، وأتباع ناصر الدين
الألباني في الأردن، ومحمد سعيد رسلان وأسامة القوصي وهشام البيلي وطلعت
زهران في مصر.
أما
الاتجاه الثالث هو السلفية الجهادية، تقوم مقاربته على تكفير الحكومات
العربية، ما قبل الربيع العربي، وتبني التغيير الراديكالي والمسلح في أوقات
معينة. ويمثل هذا الخطاب الحاضنة الأيديولوجية لتنظيم القاعدة، ويتماهى
تماماً مع خطها السياسي والحركي. ومن أبرز ممثلي هذا الاتجاه: في الأردن،
أبو محمد المقدسي وأبو قتادة الفلسطيني؛ وفي المغرب محمد بن الفزازي وحسن
الكتابي، وفي اليمن أنور العولقي، وفي سورية أبو بصير الطرطوسي.
يقف
الاتجاه الرابع في الوسط، وهو تيار سلفي يجمع بين العقائد والأفكار
الدينية السلفية من جهة، والعمل الحركي والمنظم أو حتى السياسي من جهة
أخرى، ويؤمن بالإصلاح السياسي وسلمية التغيير، ومشروعية المعارضة، ورفض
الخيار المسلح في إدارة الصراع الداخلي. ومن أبرز منظري هذا التيار، عبد
الرحمن عبد الخالق في الكويت، ومحمد بن سرور زين العابدين (الاتجاه الذي
يطلق عليه السرورية)، وتيار الصحوة الإسلامية في السعودية، والشيخ محمد بن
مقصود وتياره الفكري في مصر، وغيرهم.
يقول
المؤلف : إن ثمة قواسم مشتركة بين السلفيين – عموماً – في العقيدة
والفقه، سواء كانوا ضد العمل السياسي أو معه، أو ضد الأنظمة أو معها، تتثمل
في منح الجانب العقائدي أهمية كبيرة في مواقفهم المختلفة، ومنح قضية
التوحيد موقعاً مركزياً في خطابهم، من رفض مظاهر «الشرك «لدى الصوفية، مثل
زيارة قبور الأولياء، أو التوسل بالنبي. لكنهم يختلفون اليوم بين من يركز
على هذا الشرك التقليدي، والشرك الحديث المتمثل باتخاذ قوانين وشرائع أو
أيديولوجيات تصادم الشريعة الإسلامية ولا تقر بوجوب تطبيقها.
الثورة المصرية.. الربيع السلفي
في
منعطف ثورة 25 يناير تباينت مواقف الاتجاهات السلفية المصرية، فوقف
السلفيون الحركيون منذ البداية مع الثورة، وقدموا فتاوى بشرعيتها، بينما
وقفت مجموعة أخرى ضدها، أما التيار الأكبر (الدعوة السلفية في الإسكندرية)
فغلب على موقفها في البداية التشكيك في الثورة.
انفجر
البركان السلفي -يقول المؤلف- بعد نجاح الثورة في إسقاط النظام سلميا،
وكان أمام الحركة السلفية خياران لا ثالث لهما، إما الإصرار على مواقفها
السابقة بعدم الدخول في اللعبة السياسية وبالتالي ستكون خارج التأثير
السياسي، وهو موقف التيار المداخلي، أو الانتقال إلى صيغة جديدة من القبول
بالديمقراطية وتكييف ذلك مع أيديولوجيتها، وهو موقف التيار القطبي بقيادة
محمد عبد المقصود، والدعوة السلفية في الإسكندرية.
هذا
التحول استلزم -بحسب المؤلف- تبريرا شرعيا وأيديولوجيا، فكان التركيز على
هوية الدولة، بينما كان الصراع على الدستور بمنزلة العربة التي ركبها
السلفيون في تبرير هذا الانتقال، مع التأكيد على أن النظام الديمقراطي أفضل
من الحكم الاستبدادي، لكنه مرحلة مؤقتة في اتجاه إقامة الحكم الإسلامي.
تمثل
الشريعة الإسلامية كلمة السر بالنسبة للخطاب السلفي، الذي قبل
بالديمقراطية المقيدة بضوابط الشريعة، وضرورة التمييز بين فلسفة
الديمقراطية وآلياتها، وهذا التمييز يشكل انعطافة فكرية مقارنة بالمواقف
السابقة. ومع ذلك يقول المؤلف إنه ما زال مبكرا إصدار حكم نهائي على
الأيديولوجية السلفية ما بعد الثورة، حيث المؤشرات تؤكد أن مجالات تطور
الخطاب السلفي كبيرة، والتحولات لا تزال في بدايتها.
تصدير الثورة السلفية
يرى
المؤلف أن السلفية المصرية ما بعد الثورة هي العامل المؤثر في الحركات
والجماعات السلفية الأخرى في المنطقة العربية، بعدما كانت السلفية السعودية
هي مركز التأثير. يخصص المؤلف هذا الفصل لدراسة السلفيتين اليمنية
والأردنية، الأولى كنموذج على وقوع الثورة، والثانية كنموذج على عدم
وقوعها.
الحالة
اليمنية: انقسم السلفيون بين محذر من معصية ولي الأمر ومن هذه الفتنة
(الوادعي، المأربي)، ومواقف مرتبكة لكنها أقرب إلى الثورة، ومواقف مؤيدة
للثورة بمشاركة شباب سلفيين ومعهم شيوخ منحوا الفتاوى والشرعية للاعتصامات
(الحميقاني).جاء الإعلان الأول عن تأسيس حزب سلفي عبر عبد الرب السلامي في
عدن، ثم أخذت فكرة الحزب خطوات أكثر ثباتا عبر عقد المؤتمر السلفي العام في
مارس عام 2012 في صنعاء.بكل الأحوال أدت التحولات السياسية إلى إحداث
تغييرات نظرية في خطاب السلفية، الذي أخذ يكرس فقها سياسيا جديدا في
العلاقة مع الحاكم، يستند إلى مفهوم العقد الاجتماعي وشروطه، وبناء الدولة
الحديثة، غير أن هذا التحول الفكري ترافق مع نقد لاذع من الاتجاه السلفي
الرافض للثورة (الوادعي، المأربي) وكان يحيى الحجوري أحد تلاميذ الوادعي قد
طرح سؤالا أربك الساحة السلفية: كيف يكون السلفي ديموقراطيا؟ .. وبهذا
السؤال يكون الحجوري قد وضع علامات استفهام محرجة للتوجه السلفي الحزبي،
كيف يكون الدخول في اللعبة الديمقراطية بعد أن كان السلفيون متفقون قبل
أيام على وصفها بالكفر.
ويؤكد
المؤلف هنا أن مرافعة الحجوري ضد السلفية الحزبية تظهر التحايل
الأيديولوجي لدى سلفيي اليمن، الذين أعلنوا عن تأسيس حزب وتجنبوا الحديث عن
الديمقراطية والالتزام بقواعدها، ويمكن بيان ذلك من خلال الإعلان الصادر
عن المؤتمر السلفي، الذي تجنب ذكر الديمقراطية، وتحدث عن تطبيق الشريعة.
الحالة
الأردنية: لم يشارك السلفيون في المظاهرات والمسيرات والاعتصامات المطالبة
بالإصلاح السياسي، لكنهم بالمقابل لم يدخلوا في صدام مباشر مع القوى
الإصلاحية، واكتفوا بإصدار كتيبات وبيانات، يؤكدون فيها موقفهم الرافض
للمظاهرات.
برز
النشاط الأكبر في المواقف من الثورات الديمقراطية لدى علي الحلبي، تلميذ
مؤسس السلفية الأردنية الشيخ ناصر الألباني، فقد عمد الحلبي منذ البداية
على تحريم التظاهر، والرد على الفتاوى المؤيدة لها، فالحلبي وتياره يميزان
بين القضايا الإدارية والسياسية التي لا يوجد فيها نص من الشريعة،
فالديمقراطية هنا جائزة، وما فيه أحكام شرعية واضحة، فهذا لا يجوز في
الإسلام. ومع
ذلك لم تكن مواقف السلفيين الأردنيين من تأسيس الأحزاب والدخول في السياسة
متوافقة، فقد تحمست مجموعة لفكرة إنشاء الأحزاب، لكن الظروف السياسية تبدو
مغايرة، فالأجهزة الأمنية ما تزال قوية ولم تحدث ثورات تفتح آفاقا جديدة،
كما حدث في بعض البلدان العربية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق