السبت، 3 أغسطس 2013

تأملات في الثورات العربية

تأملات في الثورات العربية





عندما نتقدم بعقلية رصينة لتقييم هذه الظاهرة التي تعم المشهد العربي الآن تثور لدينا عدة تساؤلات لابد وأن نجيب عنها بين يدي محاولة بناء فقه الثورات الشعبية. ومن قبيل الأسئلة التي تثور أمامنا: كيف يمكن أن نعرف ونصنّف الثورات الشعبية؟ وهل يمكن النظر إليها بمعيار التمييز عن الفتن؟ وما هي ملامح الفارق بين الثورة الشعبية والفتنة؟ أين يلتقيان؟ وأين يفترقان؟
وكذا تثور تساؤلات حول: ما الفروق بين الثورات الشعبية والانقلابات العسكريّة؟ وهل يمكن النظر إليها في إطار فضاء العصيان المدنيّ؟ ومتى يصبح العصيان المدنيّ ثورة شعبيّة؟ وما الأسباب التي تؤدي إلى احتقان الشعوب وتوترها في أجيال مختلفة لتنفجر فيما بعد فيما يعرف بالثورات الشعبيّة؟ وما هي الشروط التي تتوافر في الشعوب التي تفجّر ثورات شعبيّة؟ وما تأثير العوامل التالية في تهيئة الناس للانخراط في ثورات شعبيّة؟
وأخيرا تثور التساؤلات: كيف نقيّم عمليّات المشاركة في مختلف العناصر في الثورات الشعبيّة؟ وهل يمكن لثورات شعبيّة أن تفرز قيادتها في الثورة وفي البديل الَّذِي تقدمه لمن ثارت عليه من بين صفوفها؟ أم أنّها مهدّدة دائمًا باقتناص بعض الانتهازيين والطامعين فيها في مراحلها الأخيرة وتحويل اتجاهها إلى مصالحهم؟ وهل يمكن لهذا المحظور المظنون أن يخذّل عن المشاركة في هذه الثورات؟
 ما المراد بالثورة الشعبية؟
الثورة الشعبية هي ثورة وانفجار يقوم به شعب مظلوم مضطهد سلبه مستبد أو مستبدون حقوقه الخاصة والعامة، أو تدخلوا فيها بشكل يؤدي إلى مصادرتها وحرمان أصحابها منها، وسلبوا مع ذلك خصوصيات أبناء الشعب، وانتهكوا حرماته، وجعلوا منه كلًّ على المستبد؛ يتلاعب به كيف يشاء، يستعلي عليه وحاشيته، ويتسلطون على ماله وبشرته وسائر حقوقه وشخصيته. وليس له أن يرفض أو يستنكر أو يجترئ بالشكوى؛ لأن المستبدين يرون أنه وماله وعرضه وكل مقدراته مِلك خاص للمستبد، له أن يتصرف به كيف يشاء.
وحين يجد الإنسان أنه قد فقد كيانه وحقيقة إنسانيته واستلب لصالح المستبد وسخّر لصالح أعوانه ونظامه يحتقن كل ما لديه من عوامل غضب ورفض لينتظر لحظة تاريخية أو لحظة فارقة ينفجر فيها بوجه ذلك الطاغية دون مبالي بتهديداته ولا تهديدات أعوانه.
ومن أهم نماذج الثورات الشعبية التي سجلها القرآن الكريم نموذج ثورة بني إسرائيل ممثلين بالسحرة في وجه فرعون حين خروا ساجدين، وقالوا آمنا برب موسى وهارون، فدهش الطاغية وفقد صوابه، ونسي أنهم من أعوانه الذي كان يعتمد عليهم قبل لحظات، فإذا به يقول: "آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى" (طه:71-73)، فترى ذلك الخانع الذي كان يسترضى فرعون بشتى الطرق ويسأله عن الأجر الذي سيتقاضاه إذا هزم موسى وإذا به يتحول إلى إعصار في وجه فرعون، ومثل ذلك ثورة أصحاب البروج.
والثورات الشعبية ليست بطائفية ولا حزبية ولا طبقية ولا فئوية لأن المفروض بها أن تضم سائر الفئات الشعبية المضطهدة دون نظر إلى انتماء طبقي أو حزبي أو طائفي أو ما إليها، فإن هي لم تتصف بهذه الصفة فيمكن أن يطلق عليها اسم آخر،  تسمى انتفاضة حزبية أو طائفية أو عمالية أو ما إلى ذلك.

الإطار العربي كوعاء للثورة.. تاريخ
بلادنا العربيّة المحيطة بـ"إسرائيل" كانت تعيش في ظلّ نظام عثمانيّ أنقذ بقاياها من غزوات متصلة من الصليبيّين ثم المغول، وأعاد جمعها تحت رايته موظفًا الانتماء المشترك إلى الإسلام، وبعد عقود أربعة من حكم العثمانيّين وتراجع الدولة العثمانيّة في الداخل والخارج أمام المدّ الأوروبيّ؛ بعد اكتشاف طرق المواصلات الحديثة البريّة والبحريّة، وقبلهما اكتشاف البارود، حاولت الدولة العثمانيّة اللّحاق بأوروبا بأشكال مختلفة لكنها كانت متأخّرة، ولذلك فقد أصبحت محاولات التحديث بالدولة العثمانيّة محاطة باستمرار بعوامل إفشال وفشل لم تسمح لها بأن تؤتي نتائج مثل النتائج التي حصلت أوروبا عليها أو أقل منها بكثير.
والأكثر من ذلك، أن أدت تلك المحاولات إلى بروز إشكالات جديدة عديدة أدت إلى تعميق التفكك في المجتمعات التقليديّة وبناها التحتيّة وصناعاتها التقليديّة؛ دون أن تتمكن من نقل الحداثة ودخول العصر وتحديث البلاد، فلا هي حافظت على مكان ولا حصلت على مَا تطلعت للحصول عليه. وقد فشلت محاولات مُحَمَّد علي في مصر، وإصلاحات خير الدين التونسيّ، كما فشلت محاولات سليم الثاني ومحاولات أخرى بأنحاء مختلفة من العالم الإسلامي.
فيما يتعلق بالنظام العربيّ؛ كانت الحرب العالميّة الأولى وانضمام تركيا العثمانيّة إليها بمثابة الرمق الأخير الَّذِي لفظت الخلافة العثمانيّة أنفاسها بعده، وبعد أن انتصر الحلفاء على ألمانيّا وحلفائها ومنهم الأتراك، وجاءت ثورة (9 شعبان 1916) لتمهّد لقيام نظام عربيّ جديد في ظلّ نظام دوليّ تولت قيادته بريطانيا وفرنسا وتحوّل العالم العربيّ إلى دويلات مستقلة أو تحت الحماية أو الانتداب أو النفوذ لبريطانيا أو فرنسا، فأقيمت ممالك وسلطانات وحكومات هشّة وزّع عليها التاريخ العربيّ كما وزّعت من قبل ذلك عليها الجغرافيّا، ولو مع كمّ هائل من مشكلات حدوديّة، وخلال ذلك أعطى وزير خارجيّة بريطانيا بلفور عام (1917) وعده لقيادات الحركة الصهيونيّة بفتح أبواب الهجرة لفلسطين تمهيدًا لقيام دولة إسرائيل فيها.
ومنذ ذلك التاريخ وما عُرف بالنظام العربيّ الرسميّ الَّذِي تقاسمته اثنتان وعشرون دولة وحكومة من صغيرة إلى كبيرة، ومن فقيرة إلى غنيّة يعاني من مجموعة من التناقضات والمشكلات والأزمات التي حرمته رغم الموارد البشريّة والماديّة والمواقع الجغرافيّة المتميزة من أبسط الحقوق التي يستحقها، ومع ذلك فقد حاولت تلك الحكومات المنضوية في إطار ذلك النظام أن تأخذ أشكال الدولة وأن تصنع مجموعة مؤسّسات تشير إلى أنّها دولة بالفعل، ملك أو رئيس أو شيخ أو سلطان ودستور ومجلس أمّة أو شورى أو كلاهما، وجيش وشرطة ووزراء ومجالس وزاريّة يُبالغ في أعدادها أحيانًا ويقتصد بحسب ظروف كل بلد والموازنات والترضيات التي يحرص على القيام بها.
أمّا الجيوش فقد أقبلت على تشكيلها الحكومات، وأحسنت الشعوب استقبالها وأيدتها وشجّعتها على ذلك؛ لأنّ بها تعبير عن ذكريات كامنة في الثقافة تشير إلى معاني القوة والمنعة وما إلى ذلك، وكان الناس يشعرون بالسعادة حينما يكونوا لدى الأسرة والعشيرة أو الحي بعض الضباط أو الرجال الذين ينخرطون في السلك العسكريّ.
وبالنسبة للغرب كان حريصًا أن لا تأخذ هذه الجيوش مداها في البناء والتنظيم والتسليح؛ لأنّه لم يكن واثقًا من أنّ الشعوب العربيّة لن يأتيها يومًا تسترد فيه وعيها وتنتبه لتميز هويّتها، وآنذاك قد تصبح هذه الجيوش خطرًا على الوجود الغربيّ، ومصالح الغرب ونفوذه في المنطقة، ولذلك حرص الغرب على أنّ تكون هذه الجيوش دائمًا في حاجة إليه في تسليحها وتدريبها وتكوينها، فذلك هرم يضمن له منع أيّ ضرر محتمل قد يأتيه من ناحيتها. بل إنّ الغرب اعتبر وجود تلك الجيوش في بعض البلدان وسيلة ناجحة نافعة له لتغريب عناصر لا يمكن للنظم التعليميّة أن تقوم بتغريبها أو تهيئتها لدخول العصر.
إن القطاع الغالب من أبناء القبائل في بعض البلدان ورثوا نفرة ورفضًا للانخراط في الجيش لأسباب عديدة. وهؤلاء قد يحافظون على تقاليدهم القبليّة وأنماط حياتهم، ويبتعدون عن قبول تقاليد الحداثة الغربيّة. والقبائل في بعض البلدان مثل العراق كانت بطبيعتها تعيش حالة تحالف بين القيادات القبليّة وعلماء الدين والقادة السياسيّين. وهذا التحالف كثيرًا مَا يؤدّي إلى متاعب للدول الراغبة في بسط نفوذها على هذا البلد أو ذاك من بلداننا العربيّة، فكانت عمليّة فك الارتباط بين زعماء القبائل ورجال الدين هدفًا يسعى إليه المحتلون أو أصحاب النفوذ في بعض الممالك الجديدة، فشعروا أنهم بذلك سيتمكنون من تغيير الولاءات. فبدلا من أن يكون ولاء أبناء القبائل لشيوخ عشائرهم أو قبائلهم؛ يكون الولاء للضباط والقائد، وتكون المجموعة العسكريّة فوجًا أو فصيلة أو سريّة هِيَ البديل عن القبيلة، وفي الوقت نفسه يكون الجيش مستودعًا قادرا على أن يقدم بدائل عن الحكام الذين يفشلون في الهيمنة على شعوبهم أو تنفيذ السياسات المختلفة المتفق عليها مع تلك الدول الحليفة أو ذات النفوذ في بلداننا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق