1- تاريخ النظريات الفقهية في الإسلام
مقدمة في أصول الفقه السني
منذ ثمانينيات القرن
العشرين والدكتور وائل حلاق [1] ينهض بمشروع أكاديمي يهدف إلى إعادة كتابة
تاريخ الفقه الإسلامي أصولا وفروعا. وقد سطَّر في هذا المجال دراسات كثيرة
توَّجها بثلاثة كتبٍ [2] هي خلاصة ما انتهى إليه مشروعه الفكري الذي يهدف
أساسا ـ وكما يحدد المؤلف نفسه ـ “إلى زعزعة الخطاب الاستشراقي وتقويضه
ومناهضته بمشروع أكاديمي منفصل بنيويا عن خطاب الهيمنة الغربي”[3]، ولكن
هذا الهدف كما يؤكد المؤلف لا يمكن تحقيقه من خارج نطاق هذا الفكر
الاستشراقي. إذ إنه قد نجح في تهميش جميع الانتقادات التي قدمها الكتَّاب
العرب والمسلمون من خارج معاقل هذا الفكر تهميشا كاملا [4].
المقولات الاستشراقية
يبحث هذا الكتاب في العلاقة بين الكتابات في أصول الفقه والواقع الفقهي، ويثبت بينها نقاط تماس وتشابكات بنيوية قد تجاهلها الخطاب الاستشراقي، وهو تجاهل يهدف إلى عزل الشريعة بأجمعها عن الواقع الاجتماعي، حاكماً عليها بالتهميش التاريخي. فقد ركز الخطاب الاستشراقي، على نحو أساسي، على علاقة أصول الفقه بعلم الكلام كأساسٍ لفهم منطلق أصول الفقه ووظائفه الدينية النظرية. مهمِّشاً بذلك علاقة أخرى لها بالغ الأهمية، ألا وهي العلاقة بين أصول الفقه والفقه من جهة، وبين الشريعة كمنهجية فكرية، والممارسات الشرعية في المجتمعات الإسلامية المختلفة عبر العصور من جهة أخرى.
يضاف إلى ذلك الأسطورة الاستشراقية القائلة بأن الشريعة قد توقفت عن النمو والعمل بعد القرن الثاني أو الثالث بعد الهجرة، وعُبِّر عن ذلك بمقولة أخرى تنص على أن باب الاجتهاد قد أغلق إلى أبد الآبدين. ومن ثمَّ فإن العالم الإسلامي لم يخرج من حال الانحدار والجمود إلا مع قدوم الحضارة الغربية بقوانينها ونظمها التشريعية التي فُرضت عليه.
أصول الفقه: مرحلة التكوين
يذهب د. حلاق، خلافا لكثير من العلماء المعاصرين، إلى أن الفقه الإسلامي لم يبدأ مع مطلع القرن الثاني للهجرة، بل تعود بداياته إلى ما بعد منتصف القرن الأول عندما نُقلت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية إلى دمشق، وخضعت أراض شاسعة للحكم الإسلامي.. فقد شهدت هذه الفترة ثورة في النشاط الفقهي الذي ساهم فيه العرب المسلمون ومعتنقو الإسلام من غير العرب، ولم يعد الاهتمام بالمسائل الفقهية محدودا بنخبة تمتعت بالحظوة لارتباطها بالنبي (صلى الله عليه وسلم) أو بصحابته.
وقد لاحظ المؤلف في سياق تحليله لتطور المصادر التشريعية والمفاهيم الفقهية في هذه الفترة، التغيرات التدريجية التي طرأت على هذه المصادر والمفاهيم، بداية من الأعراف والممارسات الإدارية التي كانت سائدة في الولايات المختلفة وتأثّر بها الفقهاء، ثم حاولوا، مع تزايد الاعتماد على الأحاديث والمرويات، تثبيتها من خلال الأحاديث النبوية.
ومع ظهور حركة قوية هدفت إلى ترسيخ الفقه كاملا في النصوص الدينية الموثوق بها، تغيرت طبيعة التفكير الفقهي؛ وخضع مفهوما الرأي والاجتهاد، وأنواع الاجتهاد إلى تغير في البنية والمعنى؛ فمع حلول منتصف القرن الثاني أشار مصطلح الرأي إلى نوعين من التفكير: أولهما: الاجتهاد الإنساني الحر المستند إلى اعتبارات عملية وغير الملزم بنصٍ موثوق به، أما الثاني: فهو الاجتهاد الحر المستند إلى نص موثوق والمحفَّز من اعتبارات عملية. ومع تنامي الحركة الدينية في القرن الثاني تم التخلي تدريجيا عن النوع الأول لمصلحة الثاني الذي خضع بدوره لتغييرين مهمين: فمن جهة تمَّ ترقية إسناد النصوص الموثوق بها، التي تشكل قاعدة مثل هذا النوع من الاجتهاد والتي نسبت إلى مرتبة أدنى من مرتبة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى مرتبة السنة النبوية. ويمثل مذهب الشافعي ذروة هذه العملية، ومن جهة أخرى تغيرت نوعية الاجتهاد لمصلحة طرائق أكثر صرامة ومنهجية، فقد جرى التخلي عن مصطلح الرأي واستبدلت به مصطلحات أخرى مثل الاجتهاد والقياس. وعلى هذا النحو تابع المؤلف حديثه عن نشأة مفهوم الإجماع والاستحسان وتطورهما.
الشافعي وبداية تأصيل الفقه
منح العلم المعاصر الشافعيَّ امتياز مؤسس أصول الفقه. وأدى اعتبار الشافعي مؤسساً لأصول الفقه إلى الاعتقاد بأنه ما إن وضع نظريته حتى أبصرت أصول الفقه النورَ، وأن المؤلفين اللاحقين ساروا ببساطة على دربه. وبعبارة أخرى، ساد اعتقاد بوجود استمرارية غير منقطعة في تاريخ أصول الفقه بين رسالة الشافعي والكتابات اللاحقة حول الموضوع.
وقد أظهرت بحوث المؤلف أن هذه الاستمرارية لم توجد قط، وأن صورة الشافعي كمؤسس لأصول الفقه هي ابتكار متأخر. وأن أصول الفقه كما نعرفها الآن لم تبصر النور حتى أواخر القرن الثالث، الذي لم ينتج بحثا كاملا عن أصول الفقه، كما أن رسالة الشافعي نفسها لم تولد أي تعليق أو دحض لدى مؤلفي هذه الحقبة. ولكن رسالة الشافعي تمثل المحاولة الأولى لتجميع الجهد المنتظم للاجتهاد البشري، والاستيعاب الكامل للوحي كقاعدة الفقه الأساسية. ولكن التوفيقية التي روج لها الشافعي جاءت في وقت لم يرغب الكثيرون في اعتناقها، سواء من أهل الكلام الذين لم يقبلوا بفرضية أن الوحي هو الحكم الأول والأخير في الشؤون البشرية، ولا التقليديين الرافضين مبدأَ القياس الذي طرحه الشافعي.
تقعيد أصول الفقه ما بعد الشافعي
إن أقدم حقبة لدينا عنها سجل حافل في أصول الفقه هي القرن الخامس للهجرة، فقد تم فيه طرح المشاكل الرئيسية للنظرية الفقهية، وتم تعبيد الطريق لتحليلات أكثر دقة. كما شهد نشر عدد مذهل من الأعمال الأصولية، هذا فضلا عن بروز ألمع وأبرع منظري أصول الفقه.
وخلافا لبنية الشافعي الأولية وغير المخطط لها تُظهر نظريات القرن الخامس وعياً عميقاً بالبنية. فقد فرض واقع استنباط الفقه من نصوص الوحي بطريقة مباشرة وغير مباشرة بنظر الأصوليين بنيةً خاصة تتجلى فيها المواضيع وترتبط بعضها ببعض. وقد لخص المؤلف هذه البنية في العناصر الأساسية التالية:
أ ـ نظرية المعرفة: والتمييز بين الظن واليقين.
ب ـ أصول التشريع وحجية القرآن والسنة.
ج ـ البحوث المتعلقة بتحديد القيمة المعرفية للنصوص وفقا لضعف نقلها أو قوته، وبحسب الوضوح المعنوي لمضامينها اللغوية: الظاهر، والمجمل، والعام، والخاص وغيرها.
د ـ الإجماع.
هـ ـ القياس وما يتصل به من الاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب.
و ـ قضايا الاجتهاد والإفتاء والتقليد.
الثابت والمتغير في أصول الفقه
يقوم الفصل الرابع على مناقشة العناصر الرئيسية أو الثوابت النظرية في عالم الممارسات الفقهية والاجتماعية، إضافة إلى الميول الثقافية التي أدت إلى ظهور التنوع والاختلاف أو المتغيرات النظرية ضمن إطار أصول الفقه.
يحدد المؤلف الثوابت النظرية لأصول الفقه السنِّي بأنها أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس. والخط الذي يميز بين الثوابت والمتغيرات هو “خط يفصل بين المصدر كمسلمة مقبولة على نطاق واسع أو مجموعة من المسلمات من طرق فهم هذا المصدر وتفسيره وإعادة تفسيره. وهذا الخط هو المعيار الذي يميز، على سبيل المثال، بين القبول بمبدأ القياس كطريقة شرعية والرفض الكلي لقياس الشبه” ص 172. وكما تفترض المتغيرات وجود الثوابت فإن الثوابت لا تكفي بحد ذاتها لتدلل على أصول الفقه بشكل كامل من دون المتغيرات. إن المتغيرات أشبه باللحم الذي يعطي شكلاً وحياة للهيكل العظمي للثوابت.
وقد لاحظ المؤلف المتغيرات النظرية على عدة مستويات:
أ ـ الموضوعات الأصولية من حيث المحتوى والترتيب: حيث تنوعت المصنفات الأصولية واختلفت في المواضيع والقضايا التي ينبغي إدراجها في أصول الفقه، وتلك التي ينبغي إقصاؤها، فضلا عن اختلافها في هيكلية العلم وترتيب أبوابه، فقلما اتبع أصوليان النمط نفسه من التصنيف.
ب ـ التقعيد النظري [5]: تتبع المؤلف التطورات التنظيرية في أصول الفقه في مجالات المصلحة المرسلة والاستحسان الفقهي، والتطور الكبير الذي طرأ على مفهوم العلة [6]، كما لاحظ التأثير الذي تركته المؤلفات المنطقية على مصنفات المنظِّرين لأصول الفقه. وقد أشار إلى التقدم الذي أحرزه مفهوم الاستقراء في حقل الشريعة، بدءا من ظهور مبدأ التواتر المعنوي في الحديث النبوي في مطلع القرن الخامس، ثم تطوره دليلاً من أدلة الشريعة عند القرافي والشاطبي، وربطه بمفهوم المصالح المرسلة ودخوله عنصرا في التفكير والجدل الفقهي.
ج ـ تمازج المقدمات المنطقية والكلامية في أصول الفقه: بدأ التأثر المتبادل بين علم الكلام وأصول الفقه في مراحل مبكرة من تطور أصول الفقه، ثم ظهرت أبحاث عديدة تتعلق بالجدل الفقهي في منتصف القرن الرابع على يد القفال الشاشي، ثم كانت ذروة تطورها على يد الجويني في القرن الخامس في كتابه «الكافية في الجدل»، هذا الجدل الذي دخل كوسيلة إقناع في كتب الأصول، ثم ازدادت فقهيَّة تلك الممارسة في القرون اللاحقة. وتأخر دخول المنطق في أصول الفقه حتى القرن الخامس مع الغزالي (ومن قبله مع ابن حزم على استحياء) [7].
د ـ النمو التراكمي والتطورات اللاحقة: في هذا السياق يعرض المؤلف للمتغيرات الداخلية -خلافا للمتغيرات الخارجية القادمة من علم الكلام والمنطق- المنبثقة عن أصول الفقه نفسه. فمن أمثلة ذلك:
ـ الجدل حول وجود المجتهدين الذي ظهر في القرن السادس.
ـ التفريق بين المجتهد والمفتي: فحتى منتصف القرن الخامس كان المخوَّل بالإفتاء هو من وصل إلى رتبة الاجتهاد، ولكن بعد قرن من الزمن بدأت الآراء تظهر في جواز إفتاء من لم يبلغ درجة الاجتهاد. وابتداء من القرن السابع أصبح هذا الرأي مقبولا بصورة عامة. إن تغيُّر الخطاب المتعلق بمؤهلات المفتي يعكس التنازلات التي اضطرت النظريات الفقهية إليها من أجل التأقلم مع واقع الممارسة الشرعية القائمة، حيث أصبح المقلدون هم المتولون لأمر النظام الشرعي.
ـ نشأة الشروح والمختصرات وشروح الشروح: يؤكد د. حلاق على أهمية هذه النوع من التصانيف وأثرها البالغ في تطور النظرية الفقهية وأصول الفقه. هذه الشروح التي اعتبرها كثير من المسلمين المعاصرين والمستشرقين مبهمة وغير أصيلة ولا تستحق أن تُولى اهتماما. وقد درس المؤلف هذه الشروح وحصرها في خمسة أنواع، ولاحظ أن معظم هذه الشروح تعكس “درجة معينة من الإبداع والتجديد، تشبه تماما الإبداع والتجديد اللذين يظهرهما المؤلفون الذين تكتب الشروح حول أعمالهم. إذ تماما كهؤلاء المؤلفين، تعرَّض الشارحون في كتابة أعمالهم إلى تأثيرات أتت بها وقائع جديدة من الممارسة الشرعية فضلا عن البيئة الفكرية والتقاليد الثقافية التي نموا فيها. وباختصار، فإن ملخصاتهم ولاسيما شروحاتهم تشكل وسيطا لنمو الآراء والتغيير في أصول الفقه” ص 200
وفي سياق الحديث عن أنواع التصانيف المستحدَثة تناول المؤلف «كتب الفروع» و«كتب الفتاوى»، هذه التصانيف التي أصبحت فيما بعد جزءا من منظومة الاجتهاد والفتوى والقضاء، وتداخلت من وجوه عديدة مع الممارسة الأصولية.
ـ النظريات المتطورة المتأخرة: وهي نظريات أحدث تغييرات جوهرية في بنية النظرية الشرعية. وقد صاغ القرافي المالكي أولى تلك النظريات التي تدور بشكل أساسي على التفريق بين فتوى المفتي وحكم القاضي، وعليه فقد طالب بإعادة تفسير الأحاديث النبوية وتصنيفها وفق تحديد دقيق لوظائف النبي (صلى الله عليه وسلم) التي كانت يؤديها في كل نوع من الأحاديث. والقرافي بهذا يولي أهمية خاصة للطريقة السياقية غير النصية في تفسير السنة، وهي طريقة تناقض كليا الموقف التفسيري الذي يتخذه جمهور الأصوليين السابقين، إذ يرون أنه ينبغي أن تفسر الأحاديث النبوية كوحدات مستقلة يحدد معناها النصُّ بحد ذاته ولا تخترقه، أو لا يُسمح بأن تخترقه عوامل خارجة عن النص.
أما النظرية الثانية فهي نظرية المصلحة للطوفي الحنبلي، وتتلخص في أن الشريعة أعطيت للمسلمين بهدف حماية مصالحهم، فلا تناقض بين المصلحة والقرآن والسنة والإجماع، غير أنه في حال ظهر تناقض، فينبغي أن تحل مقتضيات المصلحة محل المصادر الأخرى عبر التخصيص، وليس عبر استبعادها كلها.
أصول الفقه والواقع الاجتماعي
يتناول المؤلف في الفصل الخامس من كتابه العلاقة بين أصول الفقه كخطاب نظري مجرد، والواقع الاجتماعي الديني الذي ساهم في إنتاج هذا الخطاب الفقهي النظري. في هذا السياق اقتصر المؤلف على دراسة الشاطبي كنموذج عن هذا التفاعل بين النظرية والواقع [8]، ومما دفعه إلى اختصاص الشاطبي بالدرس هو تصحيح سوء الفهم الذي تعرض له الشاطبي من قبل العلماء المعاصرين، ولاسيما الإصلاحيين، الذي أساؤوا فهم دوافع نظرية الشاطبي وبالتالي جوهرها. وكذلك رغبته في إظهار أن كلا ، هدف نظريته وطبيعتها خاطئان.
تكمن فرادة نظرية الشاطبي في أنه لاحظ عجز الفقه عن معالجة التغيير الاجتماعي الاقتصادي في القرن الثامن للهجرة في الأندلس؛ فحاول أن يستجيب للحاجات الخاصة بزمنه عبر إظهار كيف يمكن تكييف الشرع مع الظروف الاجتماعية الجديدة. ولكن الأسباب التي أدت إلى نظريته لم تنجم أبدا عن رغبة في إنشاء آلية نظرية تؤمِّن المرونة وإمكانية التكيف مع القانون الوضعي.
بل يشدد المؤلف على أنه نظرية الشاطبي هدفت إلى إعادة قانون الإسلام الحقيقي؛ القانون الذي زيفته ممارستان متطرفتان في زمانه: مواقف المُفتين المتهاونة، والطلبات الفقهية المفرطة من غالبية المتصوفة المعاصرين له. بعبارة أخرى، إن الجانب الجدلي مع هذين التيارين كان العامل الأساس والمفسر لكثير من آراء الشاطبي وأفكاره ، بل وحتى المواضيع التي تناولها داخل كتابه «الموافقات».
تحديات الحداثة: نحو أصول نظرية جديدة للفقه
يقدم المؤلف في الفصل السادس من كتابه نظرة عامة عن التفكير المعاصر حول الأسس والمنهجية النظرية للشريعة، ويوضح بشكل خاص الصعوبات المنهجية التي واجهها المصلحون المعاصرون، والحلول التي قدموها لإعادة صياغة أصول الفقه.
مع إعادة صياغة القوانين والتشريعات في الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، بدأ المصلحون باللجوء إلى آليَّة، لم تكن معتمدة ولا مقبولة من قبل، يمكن على ضوئها إعادة صياغة الشريعة عبر التخيُّر من مذاهب تقليدية مختلفة. وحتى الآراء المرجوحة في مذهب ما، قد تجددت واعتُمِدت بمشروعية توازي تلك التي تمتعت بها الآراء الراجحة.
ولكن آلية الاختيار والمزج هذه لم تكن تجد دعما في الآلية الشرعية المتناسقة، وكانت تعاني من خلل منهجي خطير يهدد تماسك الاجتهاد والنظام الشرعي برمته. لذلك انطلق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر البحث عن منهجية شرعية ملائمة ومتسقة. وظهر في هذا السياق توجهان عرفا في العالم الإسلامي:
أ ـ المنفعيَّة الدينية: يصوغ أصحاب هذا التوجه نظريتهم الفقهية بناءً على المصلحة، وهي مبدأ قلَّ تطبيقه تقليديا، فوسَّعوه كثيرا كي يصبح المكون الرئيسي في النظرية الشرعية الجديدة. وقد اعتمد هؤلاء على مجموعة من المبادئ التي وضعها في الإسلام فقهاء متقدمون من القرون الوسطى، مثل القرافي والطوفي والشاطبي وغيرهم، ولكنهم ـ كما يوضح د. حلاق ـ يتشاطرون معهم هذه المبادئ أسميا فقط، لأنهم تلاعبوا بها وأعادوا صياغتها بحسب أغراضهم الخاصة.
وقد تعرض المؤلف لخطاب ثلة من أصحاب هذا الاتجاه بدءا من رشيد رضا، فعبد الوهاب خلاف، وعلال الفاسي، وحسن الترابي؛ كاشفا عن الخلل المنهجي الذي أحاط بتجارب هؤلاء المصلحين، وعن الضعف والتهافت الذي لازم الحلول التي قدموها لإعادة صياغة أصول الفقه؛ ومبرهنا على أنهم ـ فيما عدا الاعتراف الرمزي بمرجعية القرآن والسنة ـ قد تخلّوا عن معظم الخطوط العريضة لأصول الفقه التقليدية، مثل نظريات النسخ، والإجماع الذي أصبح يشير إلى الشورى التي تساعد الدولة في مسائل التشريع واعتماد السياسات. وكذلك مجموعة القواعد الأصولية التي تنظِّم القياس باعتباره قياس فرع على أصل، في حين تم التركيز عليه من جهة صلته بالاستصلاح. وهكذا أصبحت مفاهيم الحاجة والعوز المبررة بالمصلحة أهمَّ، وسُمح لها بأن تحلَّ محلَّ أوامر النصوص الدينية.
ب ـ التحرر الديني: يرفض أصحاب هذا الاتجاه المبادئ التي طورها الفقهاء التقليديون كلها، كما يرفضون نتائج الاستصلاح الذي مارسه المنفعيّون السابق ذكرهم، إذ إن مفهوم المصلحة مفهوم عشوائي لا يتسم بالصرامة المنهجية التي يجب أن تتوفر لقيام نظرية فقهية حديثة متماسكة. لذلك يسعون إلى تقديم نظرية فقهية جديدة تقوم على إعادة تفسير النصوص الشرعية وفق منهجية جديدة. ومن ممثلي هذا التيار محمد سعيد العشماوي وفضل الرحمن ومحمد شحرور.
وفي سياق المقارنة بين هاتين النزعتين يشير د. حلاق إلى ظاهرة غريبة، وهي أن المتحررين الذي تم رفضهم قد قدموا منهجية متماسكة ومحترمة، ونظامَ تفكير أكثر التزاما بالإسلام، في حين أن المنفعيين لم يبدوا سوى اهتمام ضعيف للقيم القانونية الإسلامية، واقتصر عملهم على مفاهيم الفائدة والحاجة والعوز، وأصبحت النصوص المنزَّلة في النهاية تابعة لهذه المفاهيم. أما منهجيات فضل الرحمن ومحمد شحرور فترفض أن تخضع لهذه المفاهيم وتستبدل بها أفكاراً منظَّمة لتحليل نصي/سياقي حيث يتم التركيز على القانون الإنساني، وهو موجَّه بشكل عام من قبل إرادة إلهية ولم يُملَ حرفيا ونصيا.
ولكن، إذا كانت ملاحظة المؤلف دقيقة ومهمة بخصوص فشل النزعة المنفعية أو المصلحية في إرساء نظرية فقهية متماسكة أو بناء أصول فقه جديد، فإنه ليس محقا بخصوص أصحاب النزعة الأخرى الذين وإن حاولوا تقديم منهجية لتحليل النص الديني وفقهه، إلا أننا لا يمكن أن نقرَّ بحال أنها منهجية متماسكة، أو متسقة، إن لجهة أسسها اللغوية والتأويلية، أو حتى لبنيتها الكلية وأسسها النظرية [9].
على أية حال، فلعل أهم ما يقدمه هذه الكتاب [10] هو الخروج على النزعة الأصالية في دراسة تاريخ المعارف الإسلامية، تلك النزعة التي تصب اهتمامها على القرون الأولى، أو ما يسمى عادة عصر التدوين، باعتبارها قمة ما وصلت إليه العلوم الإسلامية ومنتهاها، وتهمل القرون اللاحقة باعتبارها ليست أكثر من اجترار وتكرار لما سبق. فهو يقدم لنا رؤية مختلفة عما اعتدنا أن نسميه ـ بتأثير من المدارس الإصلاحية الحديثة ـ عصورَ التقليد والتخلف والركود؛ مبرزا دور النخبة العالمة فيها في تطوير كثير من المفاهيم الفقهية وتطويعها لتلائم المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي واجهتها. إن هذا الكتاب إسهام حقيقي في تصحيح كثير من التصورات الخاطئة عن تاريخ التأصيل النظري للفقه الإسلامي، أعني أصول الفقه، القديم منه والحديث.
المقولات الاستشراقية
يبحث هذا الكتاب في العلاقة بين الكتابات في أصول الفقه والواقع الفقهي، ويثبت بينها نقاط تماس وتشابكات بنيوية قد تجاهلها الخطاب الاستشراقي، وهو تجاهل يهدف إلى عزل الشريعة بأجمعها عن الواقع الاجتماعي، حاكماً عليها بالتهميش التاريخي. فقد ركز الخطاب الاستشراقي، على نحو أساسي، على علاقة أصول الفقه بعلم الكلام كأساسٍ لفهم منطلق أصول الفقه ووظائفه الدينية النظرية. مهمِّشاً بذلك علاقة أخرى لها بالغ الأهمية، ألا وهي العلاقة بين أصول الفقه والفقه من جهة، وبين الشريعة كمنهجية فكرية، والممارسات الشرعية في المجتمعات الإسلامية المختلفة عبر العصور من جهة أخرى.
يضاف إلى ذلك الأسطورة الاستشراقية القائلة بأن الشريعة قد توقفت عن النمو والعمل بعد القرن الثاني أو الثالث بعد الهجرة، وعُبِّر عن ذلك بمقولة أخرى تنص على أن باب الاجتهاد قد أغلق إلى أبد الآبدين. ومن ثمَّ فإن العالم الإسلامي لم يخرج من حال الانحدار والجمود إلا مع قدوم الحضارة الغربية بقوانينها ونظمها التشريعية التي فُرضت عليه.
أصول الفقه: مرحلة التكوين
يذهب د. حلاق، خلافا لكثير من العلماء المعاصرين، إلى أن الفقه الإسلامي لم يبدأ مع مطلع القرن الثاني للهجرة، بل تعود بداياته إلى ما بعد منتصف القرن الأول عندما نُقلت عاصمة الإمبراطورية الإسلامية إلى دمشق، وخضعت أراض شاسعة للحكم الإسلامي.. فقد شهدت هذه الفترة ثورة في النشاط الفقهي الذي ساهم فيه العرب المسلمون ومعتنقو الإسلام من غير العرب، ولم يعد الاهتمام بالمسائل الفقهية محدودا بنخبة تمتعت بالحظوة لارتباطها بالنبي (صلى الله عليه وسلم) أو بصحابته.
وقد لاحظ المؤلف في سياق تحليله لتطور المصادر التشريعية والمفاهيم الفقهية في هذه الفترة، التغيرات التدريجية التي طرأت على هذه المصادر والمفاهيم، بداية من الأعراف والممارسات الإدارية التي كانت سائدة في الولايات المختلفة وتأثّر بها الفقهاء، ثم حاولوا، مع تزايد الاعتماد على الأحاديث والمرويات، تثبيتها من خلال الأحاديث النبوية.
ومع ظهور حركة قوية هدفت إلى ترسيخ الفقه كاملا في النصوص الدينية الموثوق بها، تغيرت طبيعة التفكير الفقهي؛ وخضع مفهوما الرأي والاجتهاد، وأنواع الاجتهاد إلى تغير في البنية والمعنى؛ فمع حلول منتصف القرن الثاني أشار مصطلح الرأي إلى نوعين من التفكير: أولهما: الاجتهاد الإنساني الحر المستند إلى اعتبارات عملية وغير الملزم بنصٍ موثوق به، أما الثاني: فهو الاجتهاد الحر المستند إلى نص موثوق والمحفَّز من اعتبارات عملية. ومع تنامي الحركة الدينية في القرن الثاني تم التخلي تدريجيا عن النوع الأول لمصلحة الثاني الذي خضع بدوره لتغييرين مهمين: فمن جهة تمَّ ترقية إسناد النصوص الموثوق بها، التي تشكل قاعدة مثل هذا النوع من الاجتهاد والتي نسبت إلى مرتبة أدنى من مرتبة النبي (صلى الله عليه وسلم) إلى مرتبة السنة النبوية. ويمثل مذهب الشافعي ذروة هذه العملية، ومن جهة أخرى تغيرت نوعية الاجتهاد لمصلحة طرائق أكثر صرامة ومنهجية، فقد جرى التخلي عن مصطلح الرأي واستبدلت به مصطلحات أخرى مثل الاجتهاد والقياس. وعلى هذا النحو تابع المؤلف حديثه عن نشأة مفهوم الإجماع والاستحسان وتطورهما.
الشافعي وبداية تأصيل الفقه
منح العلم المعاصر الشافعيَّ امتياز مؤسس أصول الفقه. وأدى اعتبار الشافعي مؤسساً لأصول الفقه إلى الاعتقاد بأنه ما إن وضع نظريته حتى أبصرت أصول الفقه النورَ، وأن المؤلفين اللاحقين ساروا ببساطة على دربه. وبعبارة أخرى، ساد اعتقاد بوجود استمرارية غير منقطعة في تاريخ أصول الفقه بين رسالة الشافعي والكتابات اللاحقة حول الموضوع.
وقد أظهرت بحوث المؤلف أن هذه الاستمرارية لم توجد قط، وأن صورة الشافعي كمؤسس لأصول الفقه هي ابتكار متأخر. وأن أصول الفقه كما نعرفها الآن لم تبصر النور حتى أواخر القرن الثالث، الذي لم ينتج بحثا كاملا عن أصول الفقه، كما أن رسالة الشافعي نفسها لم تولد أي تعليق أو دحض لدى مؤلفي هذه الحقبة. ولكن رسالة الشافعي تمثل المحاولة الأولى لتجميع الجهد المنتظم للاجتهاد البشري، والاستيعاب الكامل للوحي كقاعدة الفقه الأساسية. ولكن التوفيقية التي روج لها الشافعي جاءت في وقت لم يرغب الكثيرون في اعتناقها، سواء من أهل الكلام الذين لم يقبلوا بفرضية أن الوحي هو الحكم الأول والأخير في الشؤون البشرية، ولا التقليديين الرافضين مبدأَ القياس الذي طرحه الشافعي.
تقعيد أصول الفقه ما بعد الشافعي
إن أقدم حقبة لدينا عنها سجل حافل في أصول الفقه هي القرن الخامس للهجرة، فقد تم فيه طرح المشاكل الرئيسية للنظرية الفقهية، وتم تعبيد الطريق لتحليلات أكثر دقة. كما شهد نشر عدد مذهل من الأعمال الأصولية، هذا فضلا عن بروز ألمع وأبرع منظري أصول الفقه.
وخلافا لبنية الشافعي الأولية وغير المخطط لها تُظهر نظريات القرن الخامس وعياً عميقاً بالبنية. فقد فرض واقع استنباط الفقه من نصوص الوحي بطريقة مباشرة وغير مباشرة بنظر الأصوليين بنيةً خاصة تتجلى فيها المواضيع وترتبط بعضها ببعض. وقد لخص المؤلف هذه البنية في العناصر الأساسية التالية:
أ ـ نظرية المعرفة: والتمييز بين الظن واليقين.
ب ـ أصول التشريع وحجية القرآن والسنة.
ج ـ البحوث المتعلقة بتحديد القيمة المعرفية للنصوص وفقا لضعف نقلها أو قوته، وبحسب الوضوح المعنوي لمضامينها اللغوية: الظاهر، والمجمل، والعام، والخاص وغيرها.
د ـ الإجماع.
هـ ـ القياس وما يتصل به من الاستحسان والمصالح المرسلة والاستصحاب.
و ـ قضايا الاجتهاد والإفتاء والتقليد.
الثابت والمتغير في أصول الفقه
يقوم الفصل الرابع على مناقشة العناصر الرئيسية أو الثوابت النظرية في عالم الممارسات الفقهية والاجتماعية، إضافة إلى الميول الثقافية التي أدت إلى ظهور التنوع والاختلاف أو المتغيرات النظرية ضمن إطار أصول الفقه.
يحدد المؤلف الثوابت النظرية لأصول الفقه السنِّي بأنها أربعة: القرآن والسنة والإجماع والقياس. والخط الذي يميز بين الثوابت والمتغيرات هو “خط يفصل بين المصدر كمسلمة مقبولة على نطاق واسع أو مجموعة من المسلمات من طرق فهم هذا المصدر وتفسيره وإعادة تفسيره. وهذا الخط هو المعيار الذي يميز، على سبيل المثال، بين القبول بمبدأ القياس كطريقة شرعية والرفض الكلي لقياس الشبه” ص 172. وكما تفترض المتغيرات وجود الثوابت فإن الثوابت لا تكفي بحد ذاتها لتدلل على أصول الفقه بشكل كامل من دون المتغيرات. إن المتغيرات أشبه باللحم الذي يعطي شكلاً وحياة للهيكل العظمي للثوابت.
وقد لاحظ المؤلف المتغيرات النظرية على عدة مستويات:
أ ـ الموضوعات الأصولية من حيث المحتوى والترتيب: حيث تنوعت المصنفات الأصولية واختلفت في المواضيع والقضايا التي ينبغي إدراجها في أصول الفقه، وتلك التي ينبغي إقصاؤها، فضلا عن اختلافها في هيكلية العلم وترتيب أبوابه، فقلما اتبع أصوليان النمط نفسه من التصنيف.
ب ـ التقعيد النظري [5]: تتبع المؤلف التطورات التنظيرية في أصول الفقه في مجالات المصلحة المرسلة والاستحسان الفقهي، والتطور الكبير الذي طرأ على مفهوم العلة [6]، كما لاحظ التأثير الذي تركته المؤلفات المنطقية على مصنفات المنظِّرين لأصول الفقه. وقد أشار إلى التقدم الذي أحرزه مفهوم الاستقراء في حقل الشريعة، بدءا من ظهور مبدأ التواتر المعنوي في الحديث النبوي في مطلع القرن الخامس، ثم تطوره دليلاً من أدلة الشريعة عند القرافي والشاطبي، وربطه بمفهوم المصالح المرسلة ودخوله عنصرا في التفكير والجدل الفقهي.
ج ـ تمازج المقدمات المنطقية والكلامية في أصول الفقه: بدأ التأثر المتبادل بين علم الكلام وأصول الفقه في مراحل مبكرة من تطور أصول الفقه، ثم ظهرت أبحاث عديدة تتعلق بالجدل الفقهي في منتصف القرن الرابع على يد القفال الشاشي، ثم كانت ذروة تطورها على يد الجويني في القرن الخامس في كتابه «الكافية في الجدل»، هذا الجدل الذي دخل كوسيلة إقناع في كتب الأصول، ثم ازدادت فقهيَّة تلك الممارسة في القرون اللاحقة. وتأخر دخول المنطق في أصول الفقه حتى القرن الخامس مع الغزالي (ومن قبله مع ابن حزم على استحياء) [7].
د ـ النمو التراكمي والتطورات اللاحقة: في هذا السياق يعرض المؤلف للمتغيرات الداخلية -خلافا للمتغيرات الخارجية القادمة من علم الكلام والمنطق- المنبثقة عن أصول الفقه نفسه. فمن أمثلة ذلك:
ـ الجدل حول وجود المجتهدين الذي ظهر في القرن السادس.
ـ التفريق بين المجتهد والمفتي: فحتى منتصف القرن الخامس كان المخوَّل بالإفتاء هو من وصل إلى رتبة الاجتهاد، ولكن بعد قرن من الزمن بدأت الآراء تظهر في جواز إفتاء من لم يبلغ درجة الاجتهاد. وابتداء من القرن السابع أصبح هذا الرأي مقبولا بصورة عامة. إن تغيُّر الخطاب المتعلق بمؤهلات المفتي يعكس التنازلات التي اضطرت النظريات الفقهية إليها من أجل التأقلم مع واقع الممارسة الشرعية القائمة، حيث أصبح المقلدون هم المتولون لأمر النظام الشرعي.
ـ نشأة الشروح والمختصرات وشروح الشروح: يؤكد د. حلاق على أهمية هذه النوع من التصانيف وأثرها البالغ في تطور النظرية الفقهية وأصول الفقه. هذه الشروح التي اعتبرها كثير من المسلمين المعاصرين والمستشرقين مبهمة وغير أصيلة ولا تستحق أن تُولى اهتماما. وقد درس المؤلف هذه الشروح وحصرها في خمسة أنواع، ولاحظ أن معظم هذه الشروح تعكس “درجة معينة من الإبداع والتجديد، تشبه تماما الإبداع والتجديد اللذين يظهرهما المؤلفون الذين تكتب الشروح حول أعمالهم. إذ تماما كهؤلاء المؤلفين، تعرَّض الشارحون في كتابة أعمالهم إلى تأثيرات أتت بها وقائع جديدة من الممارسة الشرعية فضلا عن البيئة الفكرية والتقاليد الثقافية التي نموا فيها. وباختصار، فإن ملخصاتهم ولاسيما شروحاتهم تشكل وسيطا لنمو الآراء والتغيير في أصول الفقه” ص 200
وفي سياق الحديث عن أنواع التصانيف المستحدَثة تناول المؤلف «كتب الفروع» و«كتب الفتاوى»، هذه التصانيف التي أصبحت فيما بعد جزءا من منظومة الاجتهاد والفتوى والقضاء، وتداخلت من وجوه عديدة مع الممارسة الأصولية.
ـ النظريات المتطورة المتأخرة: وهي نظريات أحدث تغييرات جوهرية في بنية النظرية الشرعية. وقد صاغ القرافي المالكي أولى تلك النظريات التي تدور بشكل أساسي على التفريق بين فتوى المفتي وحكم القاضي، وعليه فقد طالب بإعادة تفسير الأحاديث النبوية وتصنيفها وفق تحديد دقيق لوظائف النبي (صلى الله عليه وسلم) التي كانت يؤديها في كل نوع من الأحاديث. والقرافي بهذا يولي أهمية خاصة للطريقة السياقية غير النصية في تفسير السنة، وهي طريقة تناقض كليا الموقف التفسيري الذي يتخذه جمهور الأصوليين السابقين، إذ يرون أنه ينبغي أن تفسر الأحاديث النبوية كوحدات مستقلة يحدد معناها النصُّ بحد ذاته ولا تخترقه، أو لا يُسمح بأن تخترقه عوامل خارجة عن النص.
أما النظرية الثانية فهي نظرية المصلحة للطوفي الحنبلي، وتتلخص في أن الشريعة أعطيت للمسلمين بهدف حماية مصالحهم، فلا تناقض بين المصلحة والقرآن والسنة والإجماع، غير أنه في حال ظهر تناقض، فينبغي أن تحل مقتضيات المصلحة محل المصادر الأخرى عبر التخصيص، وليس عبر استبعادها كلها.
أصول الفقه والواقع الاجتماعي
يتناول المؤلف في الفصل الخامس من كتابه العلاقة بين أصول الفقه كخطاب نظري مجرد، والواقع الاجتماعي الديني الذي ساهم في إنتاج هذا الخطاب الفقهي النظري. في هذا السياق اقتصر المؤلف على دراسة الشاطبي كنموذج عن هذا التفاعل بين النظرية والواقع [8]، ومما دفعه إلى اختصاص الشاطبي بالدرس هو تصحيح سوء الفهم الذي تعرض له الشاطبي من قبل العلماء المعاصرين، ولاسيما الإصلاحيين، الذي أساؤوا فهم دوافع نظرية الشاطبي وبالتالي جوهرها. وكذلك رغبته في إظهار أن كلا ، هدف نظريته وطبيعتها خاطئان.
تكمن فرادة نظرية الشاطبي في أنه لاحظ عجز الفقه عن معالجة التغيير الاجتماعي الاقتصادي في القرن الثامن للهجرة في الأندلس؛ فحاول أن يستجيب للحاجات الخاصة بزمنه عبر إظهار كيف يمكن تكييف الشرع مع الظروف الاجتماعية الجديدة. ولكن الأسباب التي أدت إلى نظريته لم تنجم أبدا عن رغبة في إنشاء آلية نظرية تؤمِّن المرونة وإمكانية التكيف مع القانون الوضعي.
بل يشدد المؤلف على أنه نظرية الشاطبي هدفت إلى إعادة قانون الإسلام الحقيقي؛ القانون الذي زيفته ممارستان متطرفتان في زمانه: مواقف المُفتين المتهاونة، والطلبات الفقهية المفرطة من غالبية المتصوفة المعاصرين له. بعبارة أخرى، إن الجانب الجدلي مع هذين التيارين كان العامل الأساس والمفسر لكثير من آراء الشاطبي وأفكاره ، بل وحتى المواضيع التي تناولها داخل كتابه «الموافقات».
تحديات الحداثة: نحو أصول نظرية جديدة للفقه
يقدم المؤلف في الفصل السادس من كتابه نظرة عامة عن التفكير المعاصر حول الأسس والمنهجية النظرية للشريعة، ويوضح بشكل خاص الصعوبات المنهجية التي واجهها المصلحون المعاصرون، والحلول التي قدموها لإعادة صياغة أصول الفقه.
مع إعادة صياغة القوانين والتشريعات في الدولة العثمانية في القرن التاسع عشر، بدأ المصلحون باللجوء إلى آليَّة، لم تكن معتمدة ولا مقبولة من قبل، يمكن على ضوئها إعادة صياغة الشريعة عبر التخيُّر من مذاهب تقليدية مختلفة. وحتى الآراء المرجوحة في مذهب ما، قد تجددت واعتُمِدت بمشروعية توازي تلك التي تمتعت بها الآراء الراجحة.
ولكن آلية الاختيار والمزج هذه لم تكن تجد دعما في الآلية الشرعية المتناسقة، وكانت تعاني من خلل منهجي خطير يهدد تماسك الاجتهاد والنظام الشرعي برمته. لذلك انطلق منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر البحث عن منهجية شرعية ملائمة ومتسقة. وظهر في هذا السياق توجهان عرفا في العالم الإسلامي:
أ ـ المنفعيَّة الدينية: يصوغ أصحاب هذا التوجه نظريتهم الفقهية بناءً على المصلحة، وهي مبدأ قلَّ تطبيقه تقليديا، فوسَّعوه كثيرا كي يصبح المكون الرئيسي في النظرية الشرعية الجديدة. وقد اعتمد هؤلاء على مجموعة من المبادئ التي وضعها في الإسلام فقهاء متقدمون من القرون الوسطى، مثل القرافي والطوفي والشاطبي وغيرهم، ولكنهم ـ كما يوضح د. حلاق ـ يتشاطرون معهم هذه المبادئ أسميا فقط، لأنهم تلاعبوا بها وأعادوا صياغتها بحسب أغراضهم الخاصة.
وقد تعرض المؤلف لخطاب ثلة من أصحاب هذا الاتجاه بدءا من رشيد رضا، فعبد الوهاب خلاف، وعلال الفاسي، وحسن الترابي؛ كاشفا عن الخلل المنهجي الذي أحاط بتجارب هؤلاء المصلحين، وعن الضعف والتهافت الذي لازم الحلول التي قدموها لإعادة صياغة أصول الفقه؛ ومبرهنا على أنهم ـ فيما عدا الاعتراف الرمزي بمرجعية القرآن والسنة ـ قد تخلّوا عن معظم الخطوط العريضة لأصول الفقه التقليدية، مثل نظريات النسخ، والإجماع الذي أصبح يشير إلى الشورى التي تساعد الدولة في مسائل التشريع واعتماد السياسات. وكذلك مجموعة القواعد الأصولية التي تنظِّم القياس باعتباره قياس فرع على أصل، في حين تم التركيز عليه من جهة صلته بالاستصلاح. وهكذا أصبحت مفاهيم الحاجة والعوز المبررة بالمصلحة أهمَّ، وسُمح لها بأن تحلَّ محلَّ أوامر النصوص الدينية.
ب ـ التحرر الديني: يرفض أصحاب هذا الاتجاه المبادئ التي طورها الفقهاء التقليديون كلها، كما يرفضون نتائج الاستصلاح الذي مارسه المنفعيّون السابق ذكرهم، إذ إن مفهوم المصلحة مفهوم عشوائي لا يتسم بالصرامة المنهجية التي يجب أن تتوفر لقيام نظرية فقهية حديثة متماسكة. لذلك يسعون إلى تقديم نظرية فقهية جديدة تقوم على إعادة تفسير النصوص الشرعية وفق منهجية جديدة. ومن ممثلي هذا التيار محمد سعيد العشماوي وفضل الرحمن ومحمد شحرور.
وفي سياق المقارنة بين هاتين النزعتين يشير د. حلاق إلى ظاهرة غريبة، وهي أن المتحررين الذي تم رفضهم قد قدموا منهجية متماسكة ومحترمة، ونظامَ تفكير أكثر التزاما بالإسلام، في حين أن المنفعيين لم يبدوا سوى اهتمام ضعيف للقيم القانونية الإسلامية، واقتصر عملهم على مفاهيم الفائدة والحاجة والعوز، وأصبحت النصوص المنزَّلة في النهاية تابعة لهذه المفاهيم. أما منهجيات فضل الرحمن ومحمد شحرور فترفض أن تخضع لهذه المفاهيم وتستبدل بها أفكاراً منظَّمة لتحليل نصي/سياقي حيث يتم التركيز على القانون الإنساني، وهو موجَّه بشكل عام من قبل إرادة إلهية ولم يُملَ حرفيا ونصيا.
ولكن، إذا كانت ملاحظة المؤلف دقيقة ومهمة بخصوص فشل النزعة المنفعية أو المصلحية في إرساء نظرية فقهية متماسكة أو بناء أصول فقه جديد، فإنه ليس محقا بخصوص أصحاب النزعة الأخرى الذين وإن حاولوا تقديم منهجية لتحليل النص الديني وفقهه، إلا أننا لا يمكن أن نقرَّ بحال أنها منهجية متماسكة، أو متسقة، إن لجهة أسسها اللغوية والتأويلية، أو حتى لبنيتها الكلية وأسسها النظرية [9].
على أية حال، فلعل أهم ما يقدمه هذه الكتاب [10] هو الخروج على النزعة الأصالية في دراسة تاريخ المعارف الإسلامية، تلك النزعة التي تصب اهتمامها على القرون الأولى، أو ما يسمى عادة عصر التدوين، باعتبارها قمة ما وصلت إليه العلوم الإسلامية ومنتهاها، وتهمل القرون اللاحقة باعتبارها ليست أكثر من اجترار وتكرار لما سبق. فهو يقدم لنا رؤية مختلفة عما اعتدنا أن نسميه ـ بتأثير من المدارس الإصلاحية الحديثة ـ عصورَ التقليد والتخلف والركود؛ مبرزا دور النخبة العالمة فيها في تطوير كثير من المفاهيم الفقهية وتطويعها لتلائم المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي واجهتها. إن هذا الكتاب إسهام حقيقي في تصحيح كثير من التصورات الخاطئة عن تاريخ التأصيل النظري للفقه الإسلامي، أعني أصول الفقه، القديم منه والحديث.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق