الاثنين، 24 مارس 2014

تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية

تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية



قام الأستاذ إبراهيم العقيلي بمجهود ضخم يستحق كل الشكر والتقدير من خلال تأليفه لكتاب: تكامل المنهج المعرفي عند ابن تيمية، الذي يعد بحق من أحسن ما أُلِّفَ عن شيخ الإسلام فيما يخص منهجه المعرفي، ذلك أن مؤلف الكتاب عرض لفكر ابن تيمية بالشرح والتحليل وبيَّن الطريق الذي التزمه في أبحاثه ومناقشاته وآرائه ودروسه ومدارساته مع مختلف الفرق والملل السابقة لِزمانه والتي عاصرها وخاض في غمار الرد عليها.
وهذا الكتاب على العموم، يعرض بالبيان والتحليل المصادر المعرفية التي اعتمد عليها ابن تيمية، وكذا المعايير والموازين التي بنى عليها آراءه في نقد تراث سابقيه، وتمييز حسنهِ من قبيحه، وهذا المنهج بدوره يسهّل على القارئ الفهم الدقيق لتراث ابن تيمية، كما يسهل على الباحثين والقارئين حسن استيعابه مع تمثّل وهضم أفكاره وقضاياه.
ولنتعرض الآن بنوع من التحليل والنقد لما جاء في هذا الكتاب القيّم:
(1). إن القارئ لمقدمة هذا الكتاب لا يستطيع أن يستوعب الأفكار الأساسية حول ماذا سيأتي في ثنايا الكتاب من أفكار وقضايا يريد المؤلف أن يعالجها، ذلك أنه لا بد من الإشارة في المقدمة إلى أهم القضايا التي يريد أن يدرسها حتى تتكون للقارئ فكرة رئيسة عن الكتاب. وهذا هو ما غاب عن المؤلف.
(2). لقد أبدع الكاتب –في نظري- في الباب الأول لما عرض لأهم نواحي الحياة في عصر ابن تيمية، ذلك أنّ مثل هذه الإشارات مهمة وتنطوي على فهم دقيق للظروف الخاصة التي عاشها ابن تيمية واكتوى بنارها، ومن ثمَّ يتسنى لنا الفهم الدقيق لمنهجه المعرفي ولخصائصه في التأليف، وفي الرد على مخالفيه، وفي اجتهاداته، وفي دحض آراء الفرق الكلامية سواء ممن سبقوه أو عاصروه...
إنّ تعرض الأستاذ إبراهيم عقيلي للنواحي العلمية والتيارات الفكرية، وكذا النواحي الاجتماعية والاقتصادية، والسياسية، سيُفيد القارئ بلا شك مما يقرِّب الصورة لذهنه لأجل فهم آراء ابن تيمية ومنهجه بطريقة أوضح.
لقد أشار مؤلف الكتاب في الباب الأول إلى منهج ابن تيمية في البحث والتأليف، وهذا من صميم موضوع الكتاب، فبيَّن المؤلف تأثير المذهب الحنبلي فكراً وعقيدة في تفكير شيخ الإسلام، ممَّا مكَّنه من رحابة الاطِّلاع على السنة الصحيحة وأقوال السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعي التابعين، فاقتنع شيخ الإسلام بسداد المنهج السلفي وسلامه من التناقض والخلل حيث لا إشكال ولا تناقض بين صحيح النقل وصريح العقل، ولا اصطدام مع منهج المعرفة عند ابن تيمية الذي اعتمد في بحثه وتأليفه على قواعد المنهج التالية:
1. الاعتداد بنصوص الوحي.
2. تقديم النقل على العقل.
3. منع التعارض.
4. الكف عن التأويل.
لقد أكرم الله تعالى شيخ الإسلام بقدرة هائلة على سرعة الكتابة والتأليف حتى عدّ الإمام الذّهبي تصانيف ابن تيمية نحو خمسمائة مجلداً منها ما هو معروف لدينا ومطبوع ومنها ما هو غير معروف.
(3). في الباب الثاني من الكتاب ذكر المؤلف منهج ابن تيمية في الاحتجاج باللغة حيث بين أن مفهومها عند شيخ الإسلام ليس هو المفهوم المعروف عند سابقيه من علماء اللغة، وهذا أمر مميز في المنهج المعرفي لشيخ الإسلام، فهو لا ينظر إليها على أنها طريق من طرق العلم الثلاث، وهي الخبر والحس والعقل، وإنما هي في مفهومه: أداة تواصل وتعبير عما يتصوره الإنسان ويشعر به، فهي وعاء للمضامين المنقولة سواء أكان مصدرها الوحي أم الحس أم العقل. وهذا فرق منهجي كبير ذو بال كما سيأتي ذكره في موقف ابن تيمية من المجاز والتأويل.
رجّح شيخ الإسلام في نظر اعتبار اللغة إلهاماً للإنسان في الأصل، كما يلهم الحيوان الأصوات التي يتفاهم بها، واعتمد ابن تيمية في رأيه هذا على قوله تعالى ﴿وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ﴾ (النحل: 68)، وعلى قوله تعالى حكاية عن سليمان: ﴿ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْء﴾ (النمل: 16)، ومصداقاً لقوله تعالى: ﴿ الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْأِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 1-4) فإن الإنسان لا يخرج عن هذه السنة التي تجري على الحيوان، فهما ملهمان بالتغيير عما يريدانه ويتصورانه بواسطة الألفاظ.
لقد أنكر شيخ الإسلام أن تكون العرب قد اتفقت ابتداء على وضع ألفاظ معينة للمعاني، ثم استعملتها فيها وفي غيرها على سبيل المجاز، ودليله على ذلك عدم وجود دليل قطعي على حصول اتفاق وإجماع من طرف جماعة معينة من العقلاء على وضع الأسماء جملة، وإنما المعلوم والمعروف والمشهور هو استعمال العرب للألفاظ فيما أرادوه من المعاني.
أقر ابن تيمية في كتابه الفتاوى بالوضع الأصلي للاستثناء في اللغة، ولكنه شدد وأكد على أن العرف هو الذي يتصرف في المعنى الأصلي للَّفظ إما تعميماً أو تخصيصاً أو تحويلاً.
بيّن المؤلف أيضا احتجاج ابن تيمية بالاستعمال اللغوي معللاً ذلك بأنه واقع في كلام العرب بالضرورة، وما دامت قد استعملته في شعرها ونثرها لمعان معينة فلا بد من الاحتجاج به في مواضع النـزاع، واشترط ابن تيمية لذلك شرطاً وهو أن يكون الكلام صادراً عمّن يحتج بلغتهم ممن كانوا في المدة السابقة لنشوء اللًّحن وظهور التوليد في اللغة.
تنازع الناس في علاقة الشرع باللغة: هل فيها أسماء شرعية نقلها الشارع في مسماها، أم أنها باقية في الشرع على ما كانت عليه في اللغة؟ فكان جواب ابن تيمية حول هذا النـزاع أن الشارع لم ينقلها ولم يغيرها، ولكن استعملها مقيّدة لا مطلقة.
عَمَدَ عقيلي بعد هذا إلى الحديث عن اللغة بين الحقيقة والمجاز في رأي ابن تيمية، الذي أنكر وجود المجاز في القرآن أو اللغة وحمل جميع الألفاظ على الحقيقة موافقاً في ذلك الإمام الظاهري وأبا إسحاق الأسفراييني. وابن تيمية ينفي المجاز على أساس أن تقسيم اللفظ إلى حقيقة ومجاز لا يصح إلا بثبوت وضع متقدم على الاستعمال، وهذا ما لا يمكن إثباته بنقل صحيح عن فصحاء العرب.
بعد بيان إنكار ابن تيمية للمجاز وأدلّة القائلين بالجواز مثل الجاحظ وابن قتيبة السُّنِّي وعبد القاهر الجرجاني في القرن الخامس الهجري، عمد المؤلف إلى بيان جوهر الخلاف بين المجوزين والمانعين للمجاز، فبين أن الخلاف لا يدور أصلاً حول وجود الواقع اللغوي بشقيه الحقيقي والمجازي في كلام العرب نظماً ونثراً، وإنما يدور حول تفسير هذا الواقع اللغوي. فالقائلون بالمجاز يحتجون بالوضع السابق على الاستعمال، إذ جميع المسميات لا بد لها من أسماء خاصة يستدل بها عليها عند الإطلاق، وذلك يقع ضرورة عند التخاطب لأجل التفاهم. أما المانعون للمجاز -و ابن تيمية منهم- فيحتجّون بالواقع اللغوي، إذ وجود الألفاظ المجازية والألفاظ الحقيقية مع بعض، في كلام العرب دليل على أنهم لم يفرقوا بينهما بحدٍّ، مع صحة أفهامهم وعمق درايتهم بمقاصدهم وأساليبهم في التعبير، لا لسبب إلا لأن هذا التقسيم غير مستساغ عقلاً.
إن المنهج المعرفي لابن تيمية لا بد أن يقودَنا إلى الحديث عن موقفه –رحمه الله- من التأويل، والخلاف في هذه المسألة بينه وبين غيره لا يدور حول وجود التأويل أو عدم وجوده، وإنما يدور حول مفهومه ومعناه. فقد خالف ابن تيمية أن يكون التأويل في لغة القرآن معناه صرف اللفظ عن المعنى الراجح إلى المعنى المرجوح لِدليلٍ يقترن به، وهذا ما استقر عليه رأي الجمهور، بل يرى شيخ الإسلام –مخالفا ما سبق- أن لفظ التأويل في لغة القرآن والسنة وكلام السلف قد ورد بمعنيين: أحدهما الحقيقة الخارجية التي يصير إليها الكلام، والآخر تفسير الكلام وبيان المراد منه.
في سياق الحديث عن ظهور التأويل الاصطلاحي، أشار المؤلف إلى أن أبا الفرج ابن الجوزي عرَّف التأويل بأنه: "نقل الكلام عن وضعه إلى ما يحتاج في إثباته إلى دليل لولاه ما ترك ظاهر اللفظ"، دون أن يذكر المؤلف المصدر الذي استقى منه هذا التعريف.
إن أي تأويل في نظر ابن تيمية لا يطمح إلى التعرف عن مراد الشارع من الوجه الذي قصده، ويتكلّف في إخراج الألفاظ عن معانيها المعروفة وعن سياقها الذي وردت فيه، وحملها على معان غريبة وشاذة، مرفوض شرعاً وعقلاً. فالواجب علينا أن نتحرى مراد الشارع في كل سياق على حدة، فالقدرة مثلاً تطلق في سياق ويراد بها صفة الله عزّ وجل، وتطلق في سياق آخر والمراد منها المقدور وفي سياق ثالث يراد بها تعلق المقدور بالقدرة. والكلمة قد يراد بها نفسها الصفة القائمة بالموصوف، وقد يراد بها المفعول نفسه باعتبار أنه وجد بالكلمة. وعيسى عليه السلام ليس هو نفس الكلمة "كُن"، ولكن كائن بالكلمة "كُن".
(4). عمد المؤلف في الباب الثالث من هذا الكتاب إلى جزء مهم من أجزاء المنهج المعرفي عند ابن تيمية ألا وهو الاحتجاج بالنقل في إطار منهج شيخ الإسلام، حيث يُعد السمع أو النقل أهم مصدر للمعرفة الصحيحة وأهم ميزان لوزن الأفكار وتقويمها عند ابن تيمية.
إن النقل عنده من قبيل الخير الذي يتوقف الاحتجاج به على صدق المخبر فقط، كما هو الحال في الأخبار التاريخية والقصص، بل يتضمن أيضاً ما هو حق في نفسه لما فيه من الدلائل العقلية والبراهين الصحيحة والقضايا اليقينية المطابقة للواقع.
وابن تيمية يردُّ على من قدَّم العقل على النقل أمثال الرازي وغيره من المتكلمين لأن ثبوت النقل غير متوقف على العقل، وهو في هذا الصدد يعارض من زعم بأن السمع موقوف على مقدمات ظنية، ويجب تقديم العقل عليه مطلقاً. فالعقل الصريح لا يتعارض أبداً مع النقل الصحيح عنده بل هما متعارضان متوافقان غير متناقضين، فإن حدث تراض بينهما فلا بد أن يكون أحدهما ظنياً.
تظهر في منهج ابن تيمية في تفسير القرآن الكريم عناية فائقة به نظراً لقدسيته وعلو شأنه وتضمنه لأصول العلم والهداية.
لقد كان التعسف في تأويل كلام الله وتحريف الكلم عن مواضعه، الدافع المحفّز لابن تيمية للاهتمام بالتفسير مما جعله يضع ضوابط قويمة وصارمة للتفسير الصحيح. فقد احتفى شيخ الإسلام بالتفسير بالمأثور وألزم نفسه بضوابطه، ولقد حدد ابن تيمية الخطوات المنهجية للتفسير السليم في خمس نقاط هي:
1. تفسير القرآن بالقرآن
2. تفسير القرآن بالسنة.
3. تفسير القرآن بأقوال الصحابة.
4. تفسير القرآن بأقوال التابعين.
5. تفسير القرآن باللغة.
يرى ابن تيمية أنه إذا لم يجد المفسِّر ما يرجع إليه في تفسير القرآن الكريم، رجع إلى لغة القرآن أو السنة أو عموم لغة العرب أو أقوال الصحابة في ذلك.
إن منهج ابن تيمية المعرفي يدفع به إلى الجمع بين عبارات السلف إذا اختلفوا في التفسير، لأن ذلك عنده هو اختلاف تنوّع لا تضاد، فَيُخَرِّجُ آراءهم وعباراتهم تخريجاً حسناً باعتبار أنها جميعاً عبرت عن الحق إما بصفاته المتنوعة أو بأنواعه أو بنظائره.
إن تفسير القرآن بمجرد الرأي وبدون اتّباع الضوابط التي وضعها شيخ الإسلام حرام في نظره، بمقتضى النصوص الواردة في النهي عن القول بغير علم في كتاب الله، فالتفسير المذموم هو المبني على مجرد الرأي الذي لا دليل معه أو على نقل غير مصدّق، إذ الدّين لا يُبنى على نقل وَاهٍ أو استدلال غير محقق.
يرى المؤلف أن لتفسير ابن تيمية خصائص منهجية وإن لم يكن له تفسير كامل يشمل آيات وسور القرآن الكريم –تتلخص فيما يأتي:
أ. هو تفسير ظاهري، أي: أنه اعتمد المنهج الظاهري، وهو ليس بتفسير مُنضَوٍ تحت المذهب الظاهري الذي لا يعتمد فحوى الخطاب ولا القياس، وإنما يعني مخالفة للتفسير المجازي والتأويلي وكذا التفسير الباطني والإشاري.
ب. تفسير القرآن بنفسه.
ج. احتجاجه بالقراءات، ذلك أنها سُنَّة متبعة لا ينبغي ردها.
د. دور أسباب النـزول في التفسير، فهي ذات أهمية كبرى لأنها تكشف عن ظروف التنـزيل وأحواله وصفات المنـزل فيهم، ويرى ابن تيمية في هذا المجال أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
هـ. أقوال المفسرين لا سيما الأقوال المأثورة عن الصحابة والتابعين والأئمة المعتبرين.
و. أقوال أهل اللغة والنحو: يحتج ابن تيمية بأقوال اللغويين والنحاة كثيراً في تفسيره، أما إذا اختلفت أرآؤهم في معنى الألفاظ القرآنية وفي إعرابها، فإنه يرجع القول الذي معه دليل محقق.
ي. الاستنباط الشخصي هو أبرز خصائص ابن تيمية لأنه يرجح ويوجّه ويصَّوب ويضعَّف ويبطل أقوال المفسرين مستخدماً في ذلك منهج الاستدلال والتعليل والمقارنة.
عرّج المؤلف بعد هذا إلى بيان أصول الاستنباط الفقهي عند ابن تيمية، وهو في الحقيقة قسم مهمُّ جداً من أقسام منهجه المعرفي، وقال الكاتب: إن المجهود الفقهي لشيخ الإسلام يمكن أن يُنظر إليه من زاويتين: الأولى: كون اجتهاده الفقهي ينبغي عدّه مستقلاً لخصوصياته، والثانية: كونه امتداداً للمذهب الحنبلي. والصواب في رأي المؤلف: هو الجمع بين الأمرين، فهو تابع لأصول الإمام أحمد بن حنبل العامة، ومستقل في اجتهاداته الفقهية، فتارة يوافق المذهب الحنبلي وهو الغالب، وتارة يخالفه، بل يخالف المذاهب الأربعة جميعاً أحياناً، كما في فتوى الطلاق. لقد التزم ابن تيمية في الغالب الأعم في استنباطاته الفقهية أصول الإمام أحمد إلا في بعض المسائل القليلة مما يرجح كون ابن تيمية مجتهداً في المذهب وليس مجتهداً مطلقاً.
وعلى الرغم من كونه يفصل بين الكتاب والسنة من حيث الرتبة، فإنه عند الاستنباط لا يفرق بينهما، وهو يحتج بإجماع الصحابة، فإذا اختلفوا رجَّح القول الذي دلت عليه الأصول، فلا يتوقف غالباً في الترجيح بينها، كان يرجِّح أقوال الإمام أحمد بعضها على بعض.
أما موقف ابن تيمية من النسخ فهو واضح لا غبار عليه، يجعله خاصاً وقاصراً على رفع حكم النص، وموافقاً بذلك جمهور الأصوليين، فهو عنده لا يكون إلا في الأحكام من أوامر ونواهٍ، ولا يكون في الأخبار والعقائد. ولا يقبل ابن تيمية نسخ القرآن بالسنة لأنها ليست أعلى منه مرتبة وفضلاً، وكذلك الشأن عنده في نسخ القرآن بالإجماع فهو لا يحدث تماماً وهو رأي الجمهور أيضاً. ويذهب ابن تيمية إلى القول بحجية الإجماع موافقاً في ذلك جمهور العلماء، وهو ينفي بناء الإجماع على القياس معتمداً على الواقع، فما دام النص يجوز أن يكون هو مستند الإجماع، فلا ينبغي العدول عنه في رأيه. لا سيما أن القطعي منه يترتب على إنكاره تكفير المنكر، فمن غير المعقول أن يكون أصله مبنياً على دليل ظني يجوز أن تختلف فيه أنظار العلماء.
أنهى المؤلف كتابه بالتعرض لمنهج ابن تيمية في الاحتكام إلى العقل فجعله الباب الرابع من مؤلفه، فالعقل في نظر ابن تيمية ليس جوهراً قائماً بنفسه ولا علوماً ثابتة موجودة عند كل إنسان، وإنما هو عرَض وصفة يكتسبها الإنسان، وعلوم يحصل عليها بواسطة الغريزة الموجودة فيه بالقوة، والثابت عند كل إنسان هو العقل الفطري (الغريزي) وهو موجود لدى جميع الناس، والمتغير هو العقل الإكتسابي، وهذا يحدث فيه التفاضل، فبقدر تحصيل العلوم والمعارف بقدر ما يسمو عقل المحصِّل للعلم. إن المعرفة العقلية نسبية عند ابن تيمية، لهذا يحتاج الإنسان إلى مصادر معرفية أحرى كالحس والنقل. فالاعتماد على القضايا الحسية ضروري في المعرفة العقلية، إذ بدونها تكون أحكامه مجردة من اليقين وعارية من الأدلة الواقعية الشاهدة على صدقها. وكذلك الشأن بالنسبة للقضايا النقلية الشرعية فهي لازمة لأية معرفة عقلية، لا سيما في القضايا المعنوية التي ليست لها قيمة محددة وثابتة. فالعقل إذن وحده لا يمكنه الاهتداء إلى معرفة الشؤون المعنوية وموازين الخير والشر، والحسن والقبح، والنفع والضرر، والمعروف والمنكر، والحق والباطل، والعدل والظلم، والواجب والمحرم والمكروه والمباح. فلولا الرسالة لم يهتد العقل إلى تفاصيل النافع والضار في المعاش والمعاد، كم قال ابن تيمية.
لاحظ المؤلف عن شيخ الإسلام في منهج استنباطه العقلي أنه قد حد من الاعتماد على العقل بمفرده، ورفض استقلاله واستغناءه عن بقية المصادر المعرفية الأخرى، ورفع بالمقابل من قيمتها وجعلها على الأقل موازية له. وأيّد علاقة التكامل والتواصل بينها، فلم يُلغ بعضها على حساب بعض، ولم يُعمل ببعضها دون بعض، وإنما كان يقدم دائماً أرجح الأدلة وأقواها حجّة.
فلم يكن ابن تيمية مثل كثير من أهل الكلام ممن يذمون العقل ويعيبونه، ولا مثل كثير من المتصوفة ممن يعظمون المعارف والأحوال التي تحصل لهم عند غياب العقل، ولا مثل بعض أهل الحديث ممن يعارضون العقل بالسنن ويعزلونه عن محل ولايته، ولا مثل المعتزلة الذين يقدمون العقل على النقل.
لقد تنبَّه ابن تيمية في هذا المجال أيضا إلى قضية كون العلوم نسبية وإضافية. فليس هناك قضايا أولية عند كل أحد ولا مشهورة عند كل أحد، وإنما ذلك أمر نسبي بحسب أحوال الناس، وبحسب قوة التصور، فإذا كان تصور الشيء تاماً كان يقينياً، وإذا كان ناقصاً عُدَّ مظنوناً.
ولا يوافق ابن تيمية المتكلمين كالمعتزلة ومن نهج نهجهم من الأشاعرة، على أن معرفة الله واجبة بالنظر دون غيره، إذ في هذا حصر للطريق التي يعلم بها وجود الله لكونه خالقاً مدبراً لهذا الكون، بل معرفة الله حاصلة للخلق ضرورة بالفطرة، لكن قد يعرض للنفوس ما يغير فطرتها فتحتاج في الإقرار بوجود الله تعالى إلى النظر وغيره كالإلهام والتصفية... وأما إيجاب النظر على كل أحد فهو باطل عند ابن تيمية، ودليله أنه لو كان ذلك صحيحاً لوجب على كل الرسل دعوة الناس إلى النظر ابتداء، وليس الأمر كذلك.
وأثناء الحديث عن طرق الاستدلال العقلي عند ابن تيمية، بيَّن المؤلف أن شيخ الإسلام لا يوافق المناطقة على حصرهم للدليل في القياس الشمولي والاستقراء والقياس التمثيلي، إذ في هذا تضييق لطرق الاستدلال عنده، فهو يرجِّح رأي النُظَّار من المسلمين في اعتبارهم الدليل بمعنى المرشد أو الهادي المطلوب عموماً، والضابط لكون الدليل دليلاً عنده هو استلزامه للمدلول عليه. ومجرد النظر العقلي عند ابن تيمية غير كاف بل يضيف إليه سبباً آخر وهو ذكر الله تعالى حتى يصير المحل قابلاً للهداية، وفي هذا الصدد أورد المؤلف قصة الشيخ أحمد الحيوقي المعروف بالكبرى، ودخول فخر الدين الرازي ورجل آخر من المعتزلة عليه ليبين أهمية الذكر في المعرفة، إلا أن القصة لا تفي بالمراد فهي غير واضحة وغير مفهومة، ولا تحقق مراد المؤلف فيما يريد التعبير عنه.
لقد رد ابن تيمية القياس الأرسطي ولم يقبله بوصفه قانوناً يعصم الذهن عن الزلل في الفكر، فهو يذهب إلى الرد على الإمام الغزالي في عدّه تعلم المنطق فرض كفاية وأن من لا يحيط به فلا ثقة بعلومه، حيث استعمله الغزالي في أصول الفقه خاصة في كتابه المستصفى من علم الأصول.
وابن تيمية وإن رفض بشدة أن يكون المنطق ميزاناً للمعرفة الصحيحة أو أن يكون وسيلة لها، إلا أنه كان يبني في نفسه منطقاً آخر سماه المؤلف "المنطق العادي الفطري". فلقد بين ابن تيمية أن القياس ينقسم بحسب مادته إلى :
أ. البرهاني: وهو ما كانت مقدماته معلومة.
ب. الجدلي: وهو ما سلمت مقدماته من طرف المخاطب.
ج. الخطابي: وهو ما كانت مقدماته مشهورة بين الناس.
د. الشعري: وهو ما أفادت مقدماته التخييل.
هـ. المغلطي: وهو ما كانت مقدماته سوفسطائية مموهة.
وأما بحسب صورته فينقسم إلى:
أ. القياس الاقتراني أو الحملي: وهو ما سماه الغزالي بقياس التعادل.
ب. القياس الاستثنائي: وهو نوعان: قياس التلازم أو الشرطي المتصل، وقياس التعاند أو الشرطي المنفصل والتقسيم والترديد.
ويَعتبِر شيخ الإسلام قياس الغائب على المشاهد طريقاً صحيحاً للعلم بالأحكام العامة التي تشمل جميع الأفراد، لأنه لا يمكن في الحقيقة العلم عن طريق الحس إلا بالمحسوسات المعينة، فلا يمكن العلم بنظائرها الغائبة إلا بطريق هذا النوع من القياس.
إن خاصية الحس عند ابن تيمية هي العلم بالأشياء الجزئية المعينة في الخارج، بينما خاصية العقل عنده هي العلم بها كلية مطلقة، فوظيفة الحس إذن هي العلم بالقضايا الجزئية كما هي في الواقع، ووظيفة العقل هي التعميم عن طريق الاعتبار والقياس، وهذه العلاقة بينهما. فابن تيمية يطعن ويرد ما ادعاه المناطقة والفلاسفة من وجود ماهيات مجردة عن القيود السلبية والثبوتية، متحققة في الخارج كالمثل الأفلاطونية وما جاء عند ابن سينا بعده.
وتنقسم المعرفة الحسية عند ابن تيمية إلى نوعين:
1. ما يدرك بطرق الحس الظاهر، وهو يختص بإدراك الإحساسات الخارجية عن طريق الحواس الخمس، وهي تستوعب جميع المسموعات والمرئيات والمشمومات والمذوقات والملموسات.
2. ما يدرك بالحس الباطن، وهو يختص بإدراك المشاعر الباطنة التي يجدها الإنسان في نفسه، كالشعور باللذة والألم والجوع والشبع، والحزن والسرور، والحب والبغض، والري والعطش.
يتسع مفهوم التجربة عند ابن تيمية ليشمل ليس فقط ما يجرّبه الإنسان من أمور بفعله وإرادته، بل يشمل أيضاً ما يجربه بعقله وحسه من غير مباشرة للشيء المجرب. والتجربة المفيدة للعلم في نظر ابن تيمية هي المبنية على قانون العلّية، أي لكل معلول علّة، وقانون الإطّراد في وقوع الحوادث عقب وجود أسبابها.
(6). اعتبر المؤلف خاتمة الكتاب خلاصة للبحث، وهذا ليس بموضوع الخاتمة، إذ أنها في الحقيقة لا بد وأن تبين آفاق البحث وما يرجوه المؤلف من زيادة وتحسين وإضافة نوعيّة ومنهجية لبحثه، وليس فقط مجرد تلخيص لما سبق عرضه في ثنايا الكتاب.
وعلى العموم، فإنه حريّ بكل من اختار طريق العلم من أساتذة وطلبة أن يطالعوا هذا الكتاب لأنه يمثل نموذجاً جاداً للقراءة المعرفية لتراث شيخ الإسلام ابن تيمية –رحمه الله- وتحليلاً دقيقاً لمنهجه المعرفي المتميّز، وهو في الوقت نفسه بيان للمعايير التي احتكم إليها في ردّ آراء سابقيه ونقدها وبيان أيضا للمصادر المعرفيّة التي بنى عليها اجتهاده واستنباطه. فجزى الله الأخ الفاضل الأستاذ المؤلف خير الجزاء.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق